باستثناء فيتنام الشمالية، وما قد يقاربها من دول العالم الثالث التى تأست بمصر فى سعيها لتفعيل حركات التحرر الوطنى من قوى الهيمنة بدءًا من خمسينيات القرن الماضى، لم تتجاسر أى دولة على تحدى الولايات المتحدة بقدر ما تعاملت معها إيران عبر السلوك المتشدد للجمهورية الإسلامية 1979، ما أطال أمد الأزمة بينهما على الساحة الدولية، سواء من احتجازها عشرات الرهائن الأميركيين فى سفارتهم بطهران 1980، وليس انتهاء بإسقاط طائرة أميركية داخل المياه الإيرانية يونيو 2019، مروراً باعتزامها حال تعرضها للهجوم الأميركى.. ضرب ناقلة الطائرات «إبراهام لينكولن» التى تمثل حقيقة مدينة أميركية كاملة.. يسكنها 25 ألفًا من رجال الأسلحة المشتركة الأميركية، كادت تحول مياه الخليج إلى فيتنام جديدة للولايات المتحدة، ما يعرض هيبتها للانكسار مجدداً على غرار ما جرى عقب أحداث تفجيرات نيويورك وواشنطن سبتمبر 2001، ذلك فى تحد غير مسبوق لأقوى دول العالم من جانب دولة إقليمية متوسطة، لا تبرر عظمة حضارتها القديمة.. ما تفعله الجمهورية الإسلامية حالياً من انتهاكات جيوبوليتيكية وتقنية وفى مجال حقوق الإنسان.. إلخ، إلا من خلال نجاح إيران الثورة فى توزيع أدوارها بين نوازع «الإصلاح» ونداءات «التشدد»، كأمر مخادع، انزلق المجتمع الدولى والإقليمى إلى ابتلاعه خلال أربعة عقود خلت، وليخلص الموقف فيما بين «التهادن» مع الأداء السياسى لإيران..أو «التهديد» بشن الحرب عليها، لتشمل فرض العقوبات والمواجهة الدبلوماسية فى المحافل الدولية كما لا تستبعد التصدى العسكرى إذا لزم الأمر، وإلى أن أقدمت واشنطن على نقض توقيعها بعد ثلاث سنوات من إبرام الاتفاق النووى الإيرانى منتصف 2015، بهدف تعديل شروطه، أشبه بطرد ساكن العقار المتعاقد عليه، بعدما شغله بسنوات، ما جدد استئناف السجال بين واشنطن وطهران، إذ ترفض الأخيرة التفاوض «علانية» بشأنه.. ما دام سيف العقوبات مسلطًا عليها.. علامة على التلويح بالحرب ضدها، الأمر الذى تراه طهران إهانة لنظامها، وهكذا يضرب الطرفان الأميركى والإيرانى عرض الحائط بقضايا أخرى، منها ما يهم الدول العربية التى تتدخل إيران فى شئونها الداخلية، ومنها ما يتصل باتفاقيات حظر انتشار الأسلحة النووية.. إلخ، وحيث تبدوان – واشنطن وإيران- كأنهما تتناوبان ابتزاز المنظومة العربية، حين يتقن كلاهما دبلوماسية الخداع والتراجع، كعهد «الإمبرياليين» على مر العصور، فيما لا تمل الجارات غير العربيات فى المنطقة (تركيا- إسرائيل- إثيوبيا).. الانتظار عند نهاية مصب الأنهار.. إلى أن يصل إليهم الخصوم، وقد أثخن بعضهم بعضًا.
فى سياق هذا المناخ، تستمر الأزمة بين إيران والولايات المتحدة دون أن يكون من المعلوم تماماً إلى أين سوف تفضى مفرداتها المتشابكة بين الدبلوماسية والحرب، كحلقة من مسلسل طويل من السجالات بينهما (..) لأربعة عقود ونيف، لولا أن تطوراتها الأخيرة تأتى بمزيد من المخاطر فى ظل المتغيرات الجذرية التى طرأت على المنطقة.. والعالم، من فوضى توابع الربيع العربى (شيوع الإرهاب- حروب داخلية- تدخلات أجنبية غير مسبوقة.. إلخ)، وهو ما يفضى إلى ارتباك النظام الإقليمى، وغموض سياقاته، ومن ثم/ بسبب سيولة واهتزاز النظام العالمى (انحسار أميركى تدريجى يقابله تصعيد أدوار كل من روسيا والصين، إلى ضعف أوروبى على خلفية أزمته الديمقراطية مع بروز «الشعبوية» و«اللاليبرالية» بسيان)، ذلك فيما أدت سعة صدر الإدارة الأميركية- إذا جاز التعبير- إزاء الاستفزازات الإيرانية إلى تراجع الثقة فى عزم الولايات المتحدة التدخل ضدها فى المنطقة بشكل فاعل، مادام خراج المنطقة يجيئها بانتظام دون التورط فى حرب جديدة مكلفة، كما فى أفغانستان والعراق، أما عن إسرائيل التى ملأت الساحة الدولية والإقليمية صراخاً حول المخاطر الإيرانية، فمن غير الطبيعى خفوت صوتها عن ذى قبل، إذ يبدو أنها تكتفى مع واشنطن بالسعى للتوصل إلى اتفاق نووى جديد مع إيران أفضل شروطًا من السابق، وهو ما يتوازى مع إعلان الأوروبيين أنهم فى سبيلهم لدراسة تنفيذ آلية للتجارة مع إيران، الأمر الذى اعتبرته إيران خطوة للأمام «لكنها غير كافية».
وإزاء ما سبق من تشدد لأداء إيران، وتهاون السياسة الغربية لا يسع المرء أن يستبعد ما تتواتر إليه الأنباء عن تحركات غربية الغرض منها العمل على تغيير سلوك النظام الإيرانى (ربما لفض محور التحالف مع موسكو وبكين)، ذلك فيما يتمنى فريق فى الإدارة الأميركية إزالته، فيما يرى فريق آخر صواب سيناريو الرئيس السابق «أوباما» فى رهانه على المعتدلين الإيرانيين، الذين قد لا يكون لهم حول ولا قوة باستثناء تأييد قطاعات من الرأى العام لهم، فيما زمام السلطة بيد مؤسسات القوة الصلبة (..) التى تعمل إلى جانب المتشددين، ويديرون المفاوضات بكفاءة تثير الإعجاب، وفقاً لمن خبروهم من خلال جولات التفاوض، يساندهم فى الخلفية نفوذ «الملالى» الذين يشكلون طبقة متنوعة المشارب والإمكانيات، ولديهم، بحسب الشواهد التاريخية، أحقية تكاد تكون فطرية فى حكم إيران على مدار القرون الخمسة الأخيرة، وحيث تكشفت مهاراتهم لنا كمراقبين فى أول العهد بالثورة الإيرانية.. عن امتلاكهم تحت عباءاتهم الفضفاضة فكراً سياسياً يجيد توظيف الأوراق الجيوبوليتيكية الإيرانية، وهو ما أثبتته تطور الأحداث عاماً تلو الآخر، على مدى أربعة عقود خلت من قيام الثورة الإيرانية.