إذا كان حب النبى كإنسان ورمز بشرى للإسلام، فى الأصل مركزه قلب المسلم كدائرة أولي، فإن هذا الحب ينتقل تصاعديا إلى دوائر أوسع فى الأسرة، فالمجتمع المسلم فى نفس البلد، فالدول الإسلامية، فالمسلمين كبشر لا كمواطنى دول. حب النبى فى الأصل إيجابى جدا، لان سيرته تحفل بصفات شخصية وعملية جعلت النبى مُعلما وقائدًا وإداريًا واقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا ومرشدًا اجتماعيًا، بالصورة المفترض فيها أن من يتمكن فى قلبه حبه، فلا يعرف الحقد أو الانتقام أو التعصب أو العنصرية! بالعكس فمُحب النبى يتصف بخُلقه وسلوكياته ومنهجه الحياتى المعتدل (لكم دينكم ولى دين). مشكلة حب النبى مع الزمن، هى تحوله لحب طوطمى (مقدس ومحرم المساس به) عند عموم المسلمين دون هويته أو اتباعه حقًا، والنتيجة تقديس الطوطم اكثر من الشخص، والدفاع عن صورته الذهنية لا معناه، وعن حبه ولو بالقتل والمقاطعة، كتعبير عن الولاء أكثر من الاتباع.
ترتبط فكرة الإسلام ظاهريًا بعدة رموز مادية فاصلة، أهمها (المصحف) الحاوى لنصوص القرآن، شخص النبى محمد عليه السلام، والكعبة. وهى كرموز ترتبط بوجدان المسلم بصفة طوطمية، بغض النظر عن تدينه أو حقيقة هذه الرموز. وبداية من اكتشاف إميل دوركايم (1858-1917) لفكرة الدين الطوطمى بوصفه للقوى الدينية رمزاً لقوى الجماعة والمجهولة للعشيرة، أصبح الطوطم مقدسًا كرمز للجماعة نفسها، وكتجسيد لقيمها المحورية بحياتها، وليست كمشاعر الإجلال والإكبار التى يحملها أفراد هذه الجماعة للطوطم نفسه.
أما الإسلام نفسه كعقيدة سمحة وشريعة نظامية، فله مرجعيات محسومة فى الشريعة بالنص القرآنى والصحيح من السنة المؤكدة، أما التشريعات الإسلامية والفقه والفتاوي، فطبقات مركبة تراكمت عبر العصور طبقًا لأزماتها، ليتصاعد تشدد تطبيقها بعيدًا عن الإسلام نفسه، ومع ذلك استمرت رموزه المادية هى الموحدة بين اهله، ليتحول تدريجيا إلى دين طوطمي يُستخدم لاغراض شتى.
فى معادلات دول الشمال والجنوب والنظام العالمى الجديد، كانت الشيوعية والإسلام اكبر تحد يحكم إدارة المصالح الدولية. فأما الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتى ودول فلكه، فبالفعل تم تصفيتها عدا الصين والنجاح لاستدراجها لاقتصاد السوق ولعبة الأمم. أما الإسلام فخطره أكبر لارتباطه بعقيدة روحية حقيقية، ودول غنية وفكر بعضه متشددًا وجماعات طموحة طائلة، والأخطر توغل رأس المال الإسلامى (العربى أو ذو الأصول الإسلامية) بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى العديد من المشروعات الدولية العملاقة والمؤثرة فى التجارة الدولية. ونظرًا لاختلاف مرجعية ورموز الإسلام عن الشيوعية، كان لمواجهته منهجيات وإستراتيجيات أخرى!
فبعدما قاربت المرحلة الرأسمالية على الانتهاء، بالتحول التدريجى لعودة تدخل الدول فى الأنشطة الاقتصادية بصور مختلفة، ظهرت بهدوء بوادر عالم جديد أكثر تعقيدًا وعمقًا وتأثيرا من «النظام العالمى الجديد» بقيادة أمريكا، حيث ستعاد معادلات العلاقة بين السياسة والدين والمال والقوة، لإخراج انماطا جديدة من تقسيم وإدارة العالم والسيطرة عليه لبقية القرن الـ21، كجزء من المشروع الذى ضم «الربيع العربى المتصدع» لبرنارد لويس، بتقسيم العالم الإسلامى من إيران للمغرب، بسبب التدخل المصرى فى 30/6، واحتياج منطقة الوسط لمنظومة إدارة جديدة بالأزمات المستمرة، وتدابير بديلة طويلة المدى معًا.
نجد ذلك مع اقتراب نهايات 2020، وتعاصر مجموعة معطيات عالمية يتصاعد تأثيرها سريعًا، كالتداعيات الاقتصادية والسياسية لموجة كورونا الأولي، واقعة ذبح المدرس الفرنسى على يد شاب مسلم شيشاني، ثم تبعها مذبحة نيس، السلام بين الإمارات وإسرائيل، إستراتيجية دولية جديدة غير معلنة لمحاصرة الإسلام السياسى من خلال متطرفيه، بناء البيت الإبراهيمى كفيدرالية دينية جديدة، تضم الأديان الثلاثة تشمل البلاد العربية واسرائيل وايران وتركيا، توجه عالمى لجعل مكة والمدينة مقدسات تاريخية إبراهيمية تدعم الدولة الإبراهيمية، الموجة الثانية لكورونا ومشروع شريحة الدجال، بدء طرح عملة معدنية جديدة باسم (عملة اتفاق إبراهيم)، مشروع نيوم، تصاعد نجم مصر وقدراتها فى المنطقة والسياسة الدولية، القواعد الدولية الجديدة فى رقمنة صناعة الأموال ورقابتها.
ومن هنا، نجد أن إستراتيجية محاصرة (الإسلام) من خلال متطرفيه (الإسلام السياسى أو الأسلمة)، نجحت فعلا هذه المرة فى تجربة (صامويل باتي) وأثمرت المطلوب منها، باللعب على وتر شخص النبى المتحول لرمز مُحرم، مقابل وتر الحرية فى فرنسا بلد الحريات! لدرجة استدراج الإليزيه ليكون طرفا شخصيا فى الأزمة، حتى لو صرح (نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام). المشكلة أن استثمار تصعيد كاريكاتير الرمز، استدعى حبه للدفاع عنه ولو بالذبح، وورط رمز الدولة فى تصريحات ترفض الإرهاب وتربطه بمتطرفى الإسلام، وليس الإسلام نفسه! والنتيجة محاولة خبيثة لاستعداء اقتصادى عالمى من محبى النبى لمقاطعة فرنسا، كنمط لضرب الإسلام بالمصالح!
الصورة الكلية أخطر بمراحل من تبرير تصريحات الإليزيه لضمان الانتخابات المقبلة أو تمرير تشريعات فرنسية لتحجيم الإسلام أو الدفاع عن طوطم الحرية الفرنسية! فالحقيقة أن الآثار الاقتصادية لحب النبى ضد الازمة الفرنسية، ستكون كالاوانى المستطرقة، وستظهر فى أماكن أخرى، لتمر وتتكامل بهدوء مكونات العالم الجديد.
تم استثمار حب النبى لفرض عقوبات اقتصادية، دون مناقشة وتفنيد مرجعيات ذبح (الشاب) الشيشانى (للمعلم) الفرنسي! أو مواجهة حقيقية وتصفية لأصول الفكر المتطرف! أو تصميم رؤية إسلامية عالمية جديدة، وبدون ذلك، قد تتجاوز العقوبات الاقتصادية فرنسا باسم الحب النبوى لدول أخرى، لا تريد المصير نفسه، مع تكرار ذات الفعل نفسه دون علاج حقيقي!
هذه ليست أزمة سياسية أو إسلامية، ولكنها خطوة على الطريق الجديد، يلزم محاصرتها بوعى الإسلام الحقيقي، لا بمصالح مسلميه النافذين.
* محامى وكاتب مصرى