التأثير الخفي للثقافة في تعافي الاقتصاد العربي!

محمد بكري

8:37 ص, الأثنين, 16 ديسمبر 24

محمد بكري

محمد بكري

8:37 ص, الأثنين, 16 ديسمبر 24

هل هناك علاقة وتأثير متبادل بين الثقافة والاقتصاد؟ لا أقصد الاستثمار فى الثقافة، ولكن تأثير ثقافة المواطن كمنتج فى الاقتصاد المحلى والعربي! لا يوجد خلاف على تعرض أغلب الاقتصاد العربى لموجات متتالية من الانكماش والركود منذ الربيع العربى 2011، أثمرت انخفاض الناتج المحلى GDP للعديد من الدول كمصر، العراق، تونس، الأردن، السودان، لبنان، سوريا، ليبيا، اليمن، الجزائر، لأسباب متعددة كالحروب الأهلية، الاضطرابات السياسية، الفساد المالى والإداري، الكوارث الطبيعية، الاعتماد المفرط على عائدات النفط والغاز، تأثير جائحة كورونا، انخفاض أسعار النفط العالمية، وهو ما طرح زخمًا من ضعف الإنتاجية والسياسات الاقتصادية الخاطئة، ارتفاع البطالة والتضخم، انهيار العملة المحلية والبنية التحتية، عجز الميزانيات وضعف الاستثمارات وتراجع القطاعات الصناعية والزراعية، تزايد الدين العام، تراجع احتياطات النقد الأجنبي. وهو ما ورط قطاعات متكاملة فى ركود حقيقى مس السياحة، الصناعة، الطيران، التصنيع والإنتاج، تقلبات البورصة، حرج الاستثمار فى التكنولوجيا، تذبذب السوق العقارية، الاستيراد والتصدير، إفلاس وتجمد الشركات الصغيرة وبعض المتوسطة، ارتفاع معدلات الفقر وعدم المساواة، تقلص الإنفاق الحكومى على الرياضة والأنشطة الترفيهية.

ورغم وجود تظاهرات ثقافية عربية لامعة كموسم الرياض، مهرجان الجونة بمصر، موازين بالمغرب، إكسبو وجايتكس دبى ومهرجاناتها، لكنه لا يعتبر دليلا على التعافى الاقتصادى للسعودية، ومصر، والمغرب، والإمارات! فالتعافى الاقتصادى مصطلح يشير لمرحلة الانتقال التى يشهدها اقتصاد الدولة بعد فترة من الانكماش أو الركود، الذى مازال مصاحبا لاقتصاد العديد من الدول العربية. وباستعراض صور وآثار انكماش وركود اقتصاد أغلب الدول العربية، يتضح أن أغلبه (مصنوع وموجه)، كحلقة بسلسلة تطويق المنطقة العربية من الخليج للمحيط فى منظومة النظام العالمى الجديد لاحتواء المنطقة على العناصر الجوهرية الرئيسية لاقتصاد عالمى حقيقي، ليس معافاته من مصلحة دول الشمال، لينال حصته بالسوق العالمية أو تحريكه أو التأثير فيه! فعناصر الموارد الطبيعية، والبشرية، المناخ والجغرافيا، المحتوى والتراث الإنساني، الخبرات المعرفية، العبقريات الفردية فى العلوم والرياضة والتقنية والفنون، الرصيد النقدى للعائلات والشركات القابضة، أوجدت مستفيدين (لصناعة الانكماش والركود الاقتصادى العربي) بجذور، ومخططات، وأطراف، بدأت منذ عهد محمد على الكبير وانتباه أوروبا للدور المصرى فى حالة نجاح مشروعه التوسعي!

الملاحظة الأدق هى ارتباط واستهداف (صناعة الانكماش والركود الاقتصادى العربي) المواطن العربى كمحور وعنصر رئيسى فاعل فى تنمية وتعافى الاقتصاد، المكون من حزم أنشطة، وعمل، ومشروعات، وخدمات المواطنين الذين يشكلون هدف الإنتاج والاستهلاك، وبالتالى الدخل والضرائب! وهو ما تم احترافه فعليا فى (صناعة التفكيك الأخلاقى للمجتمع العربى – بغض النظر عن مستوى دوله – خلال 15 إلى 20 سنة، هى مدة تعليم جيل واحد من الأطفال والشباب والطلاب، بحيث يمر ويشهد ويعايش هذا الجيل – بلا وعى حقيقى – لأطوار حرق مجتمعه! فيصل لمرحلة تلون آماله بالرمادية فى رؤيته لنظامه السياسي، تنميته، أسرته، دينه، تعليمه، أرضه، فرصته فى بلده، حلمه بالأموال، مناكبته لرفاق مترمدين، رغبته بحياة طبيعية بدون دفع حقيقى لقيمتها!)، كما فصلت سابقا بمقالى (آمال ورماد)، من هنا يلزم رصد الأثر الخفى للثقافة والوعى الجمعى العربى فى تعافى اقتصاده!

موضوعيا فمظاهر تعافى الاقتصاد ترتبط طرديا بزيادة وعى وثقافة ومزاجية المواطن (كمستثمر، مبتكر، مدير، مُنتج، صانع، عامل، مستهلك، فنان، مستخدم، مثقف)، هذا الوعى الفردى (ومن مجموعه يتشكل الوعى الجمعي) تلعب فيه الثقافة (الموسيقي، الفن، الإعلام، الفكر وحرية الرأي، السينما والفضائيات) دورا جوهريا فى إنعاش أو قهر أو كبت أو تكميم أو تحجيم إبداع وفكر وحرية المواطن العربي، وهو ما يظهر أثره بوضوح فى مكونات صناعة الانكماش والركود الاقتصادى من صراعات أهلية، انقسامات سياسية، تفقير المجتمعات، تطوير صور البطالة، تقزيم الثقافة العربية باستيراد صور مشوهة من الثقافة الغربية أو تصدير فعاليات ممسوخة تنحر فى وعينا وتخدر طموحه للإبداع ونحت أنساق أصيلة وحفظ وتطوير هويات تتآكل تدريجيا. والنتيجة انحطاط الذوق والقيم الفنية، تمييع الوعى الجمعي، استغلال الفن والثقافة سياسيا واقتصاديا لخدمة مصالح وتوجهات وليس لتحفيز وتنشيط الإبداع الحقيقي، تعزيز الثقافة الاستهلاكية السطحية، تقويض الهوية الثقافية، وتهميش القضايا التراثية.

ولاستيعاب الصورة الأكبر لخطورة هذا التأثير الخفى للثقافة فى تعافى الاقتصاد العربي، دعونا نلاحظ تأثيرات نتفليكس، اليوتيوب، الفيسبوك، سبوتوفاي، أنغامي، وغيرها لاحتلال وإرباك وتشتيت وقت المواطن العربي، وتحويل استمتاعه إلى تفكيك تعليمى وديني، وتجسس ثقافى لرصد وتحديد وتوجيه توجهات الشعب العربى وترويضه بالسيطرة الثقافية، لمزيد من الإغراق الاستهلاكى والتشتيت الإبداعي، ليتقلص دوره الحقيقى فى التنمية وتحريك عجلة الاقتصاد الحقيقى القائم على الابداع والتطوير والإنتاج والتحليل والإنجاز لتحقيق المشروعات المتكاملة، بما يرفع تدريجيا الناتج المحلى ليسمح بتعافٍ حقيقى للاقتصاد المحلى ثم العربي. من هنا يمكن فهم ان النجاحات البراقة لفعاليات موسم الرياض، مهرجان الجونة بمصر، موازين بالمغرب، اكسبو وجايتكس دبى ومهرجاناتها، تعتمد اساسا على الانفاق الاستهلاكى للزوار، تغليب النزعة الاستهلاكية على الجوهر والقيمة الثقافية، انحسار إن لم يكن اختفاء المحتوى الثقافى الحقيقى العميق، انفصال مظاهر الفعاليات عن افراد الشعب العاديين، اثارة الجدل المجتمعى والديني، التبعية الخارجية والتعلق برموز الفن والثقافة العالمية وتهميش الرموز العربية الحقيقية، ليرتبط التأقيت بالفعاليات بدلا من الدعم طويل الأجل المخطط لصناعة السينما والمسرح والأوبرا والكتب والترجمة والأبحاث.

من الصواب ربط مفاهيم الاقتصاد بالثقافة لاستشراف تعافٍ اقتصادى حقيقي، يسمح للعرب تدريجيا بتحقيق نمو حقيقي، ولن يتم ذلك بدون استيعاب جاد واعٍ لمدى تأثر وتأثير أدوات الثقافة على فكر ومزاج ونفسية وقرار المواطن، مع سرعة تصميم إستراتيجيات وخطط إنقاذ ممرحلة تستهدف تدارك مواطن الاقتصاد العربي، خصوصا بعد أحداث غزة، سوريا، ليبيا، العراق، وما تفرزه من موجات الإحباط والتفكك المُلقى بظلاله على الأغاني، والدراما، والشعر، والنقد، والفن التشكيلي، والصناعة الدينية، والتخثر السياسى للأحزاب، لإنتاج اقتصاد Marionnettes! فالمواطن هو قلب الاقتصاد الحقيقى وهدفه النهائى للحصول منه علـى إيرادات وضرائب ورسوم وأرباح، وبغيره فتراكم الخسائر المادية والمالية هو التطور الطبيعى لطاحونة الانكماش والركود الاقتصادى العربي، المستهدف حفظ درجة تخثره وتهرئه فى أتون الثقافة المصطنعة! ولا عجب أن يكون فشل أو ضعف أو تشتت أو تجهيل القرارات الاقتصادية والسياسية والإدارية والتنفيذية، هو المحصلة الطبيعية لثقافة مواطن بدرجة وزير، أو مدير، أو مستثمر، أو مستهلك!

وها هى 2025 تطل على الاقتصاد العربي، محاطا بمنظومة متسقة من النزاعات والانقسامات والركود، تحتاج التنبه والتيقظ لدور إحياء مفهوم أثر ثقافة المواطن على الاقتصاد، كبداية حقيقية متواضعة لتعافى اقتصاد عربى قادم بإذن الله.

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]