لم تُشهر مصر «الملكية» ولا مصر «الجمهورية»، بادئ ذى بدء، خصومتها للدولة العبرية، كما الشائع، لأسباب قومية أو لما يتصل فحسب بالقضية الفلسطينية، إلا بقدر استشعارها الخطر من وراء الغايات الصهيونية على أمن مصر القومى، ليس فقط لظمأ إسرائيل للمياه من «النيل إلى الفرات»، الشعار المعلق على جدران الكنيست، والمسطور فى الأضابير التوراتية، وليس لمطامعها التوسعية فحسب فى الأرض بعد المياه، على النحو المستهدف من جانبها لاحتلال شبه جزيرة سيناء مرتين خلال عشرة أعوام، قبل إجبارها على الانسحاب منها «منقوصة السيادة».. ونهبًا من ثم لاختراقات أمنية معادية لا تزال تتناولها من كل حدب وصوب، وإنما أيضًا لاستشعار مصر الخطر الإسرائيلى من بعد الأرض والمياه.. إزاء النوايا البعيدة للصهيونية فى السطو على دورها الإقليمى، كحُلم تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد، إذ تستعين لمحاولات تحقيقه المرة تلو الأخرى بالقوى الأكثر انكشارية (امبريالية)، سواء فى داخل الإقليم أو من خارجه، ابتداء من العمل كالتابع الذليل للفرس 500 ق.م لسحق ثورات المصريين ضد الاحتلال.. وإلى العمل كالشريك الضعيف للولايات المتحدة فى الزمن المعاصر، مرورًا بخدمة القوى الاستعمارية الأوروبية المختلفة، الأمر الذى تصبح معه الخصومة- على الوجود- بين مصر التاريخية والصهيونية الدولية ذات طبيعة حضارية، لم تفلح المواجهات العسكرية بينهما، خاصة منذ العام 1948، فى الحسم لصالح أحدهما ضد الآخر، لأسباب متباينة، ما دفعهما منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين إلى تجريب أساليب إجرائية لغير المواجهة العسكرية.. وأبعد عن الالتحام السلمى، إذ تؤدى فحسب إلى أقرب ما تكون إلى تسويات سياسية يوقّعها طرفا أهل القمة فى الجانبين، كضرورة يفرضها الواقع الحالى المسدود بينهما، لكن دون أن تمتد قناعاتهما إلى الجذور، ما دامت الغايات الصهيونية على عنصريتها المتغطرسة المنجذبة تاريخيًّا نحو اكتناز المزيد من الثروة والقوة، ما يحول بين ميل الطبيعة المصرية المعتادة بالفطرة إلى قبول التعايش مع الغير (الصهيوني)، حيث تبقى الحواجز الزجاجية قائمة بينهما رغم القصاصات الورقية الموقّعة عليها الاتفاقات السياسية المتوالية، بعد مصر، بين إسرائيل مع أنظمة عربية بلغ بها اليأس من طول الكفاح إلى الهرولة نحو التطبيع دون أدنى التزام من جانب إسرائيل سواء بما يتصل بتطبيق كامل بنود القرار الأممى 242 نوفمبر 1967، أو بالإطار الثانى (الفلسطيني) لاتفاقيات كامب ديفيد سبتمبر 1978، ولا بمقتضى تسوية الصراع (الأرض مقابل السلام) من خلال «حل الدولتين» المتفق عليه من مجمل المجتمع الدولى، إلا من زعم إسرائيل (السلام مقابل السلام) لما تطلق عليه «السلام الاقتصادى»، فيما لا تزال تحتل أجزاء من الجنوب اللبنانى، وهضبة الجولان السورية التى تجرى فيها مؤخرًا مناورات إسرائيلية بالذخيرة الحية، ذلك فى الوقت الذى يطلق قطاع غزة فى المقابل مناورات عسكرية لفصائل فلسطينية بالذخيرة الحية، هى المرة الأولى من نوعها، كما تنتشر فى الضفة الغربية مئات الآلاف من البنادق الفلسطينية.. تعبيراً عن ديمومة الكفاح المسلح الذى وإن كان قد لفظ أنفاسه فى الأردن 1970، وفى لبنان 1982، إلا أنه ما زال قابلًا للإحياء داخل الأراضى المحتلة فى أحشاء إسرائيل ذاتها، كآخر الخيارات لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة عاصمتها القدس الشرقية، التى تعتبر من وجهة نظر إسرائيلية بمثابة خنجر فى خصر المشروع الصهيونى يحول دون استكمال غاياته العليا، بما فى ذلك السطو على دور مصر الإقليمى كضرورة تمهد لهيمنة الحقبة اليهودية على عموم المنطقة العربية، كما سبق وأن صرح بذلك ضمنًا «شيمون بيريز» فى الدار البيضاء 1995، ما يدفع المشروع الصهيونى إلى استباق الأحداث لحسم الأشواط النهائية لبلوغ أهدافه، سواء من خلال ابتزاز أنظمة وشرائح اجتماعية عربية نحو التطبيع، أو سواء بمقاربة العلاقات مع كل الدول الكبرى لاستمالة جنوحاتها الإمبريالية فى إطار الحرب الباردة فيما بينهم، كمقياس لبقاء ونجاح المشروع الصهيونى من عدمه، ناهيك من جانب ثالث عن التحصن- كضرورة- وراء جدران القلعة الإسرائيلية، سواء حيال خصومها من دول الجوار أو من جراء توابع الانفلات الاستيطانى أو للحيلولة- رابعًا- دون تفاقم الانقسامات الأيديولوجية والحزبية إلى التوترات الاجتماعية والطائفية.. إلخ، إذ ليس أدل على ذلك من الفراغ الحكومى عبر أربعة انتخابات تشريعية خلال السنتين الأخيرتين، وإلى حد التسابق بين الأفرقاء الحزبيين فى استمالة الأصوات العربية لتحقيق الأغلبية الائتلافية المطلوبة فى مارس المقبل، حيث تتمثل هذه العوامل، إقليميًّا ودوليًّا وفى داخل إسرائيل، بمثابة معركة حياة أو موت سياسى وأيديولوجى لمستقبل المشروع الصهيونى الذى يعتمد فى إعاشته على عوامل قوة اصطناعية عديدة تمدّه بقُبلة الحياة عبر مساعى السلام المتخيل بين أراضٍ مستباحة وأنظمة مهزوزة
شريف عطية
7:35 ص, الأحد, 3 يناير 21
End of current post