الشيخ إمام.. أمير الغناء لطبقات الشعب وموسيقار الوطن ولحنه الخالد

أراد لوطنه الأفضل.. ولم تمكنه الأيام من عيش الثورة التي تغنت به

الشيخ إمام.. أمير الغناء لطبقات الشعب وموسيقار الوطن ولحنه الخالد
إبراهيم الهادي عيسى

إبراهيم الهادي عيسى

12:55 ص, الخميس, 8 يونيو 23

تحل ذكرى وفاة الشيخ إمام عيسى، والذي يعد شخصية موسيقية فريدة من نوعها، فلم يسلك الطريق المعتادة للشهرة، ولم يصل إلى الناس بتقديم الأغاني العاطفية شأن غيره من المطربين والملحنين، ولم يظهر على أسماعهم من خلال السينما أو شركات الإنتاج، وإنما اقتحم حياة الطبقات كلها بالأغنية الوطنية، التي عبر فيها عن كل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرّ بها المصريون والعرب أجمعين، وأصبح “الرجل الضرير” إمام الجمهور الذي تتنازع كل الفئات ذات الخلفيات الفكرية لانتزاعه، فغدا رمزًا للثورة على الأوضاع الصعبة التي مرت بها الشعوب العربية، وقدم العديد من الأغنيات التي لشحذ الهمم وحث المواطنين على الثبات، ولم يكن ثائرًا في مطلقًا، ولكنه أراد لوطنه الأفضل.

الشيخ إمام محمد عيسى (الثاني من يوليو ١٩١٨ – السابع من يونيو ١٩٩٥) المولود في قرية أبو النمرس التابعة لمحافظة الجيزة، فقد بصره مبكرًا بسبب الإهمال والجهل، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ عبد القادر ندا؛ رئيس الجمعية الشرعية، الذي فصله بسبب سماعه للشيخ محمد رفعت، بالإذاعة، حيث كانت الجمعية الشرعية تحرّم الاستماع للإذاعة، والتقى الصبي إمام بالشيخ درويش الحريري (١٨٨١ – ١٩٥٧) وكان عالمًا موسيقيًا، فأعجب بصوته، وعلّمه الموسيقى، ولمع نجمه في مصر والعالم العربي لأكثر من ٢٥ عامًا، وأصبح بحق فنان الشعب وخليفة سيد درويش.

بدأ الشيخ إمام تعلم التلحين بنفسه، وابتعد عن قراءة القرآن في المآتم، وتحول لمغنٍ واستبدل ملابسه الأزهرية بملابس مدنية، وفي عام 1962 التقى إمام بالشاعر أحمد فؤاد نجم، وانضم لهما عازف الإيقاع؛ محمد علي، فكان ثلاثتهم يؤدون الأغاني أمام الجمهور الذي كان غالبيته من الشباب وطلاب الجامعة.

رأى الرجل “الضرير” الشارع العربي والمصري، بعد هزيمة 1967 بعين الساخر من السلطات التي تسببت بالهزيمة فكانت أغاني، مثل:

الحمد هلل خبّطنا تحت بطاطنا

يا محلى رجعة ظباطنا

من خط النار

وسرعان ما تحولت السخرية إلى نغمة مليئة بالفخر والاعتزاز وشحذ الهمم وتقوية الروح الوطنية، فكانت أغاني مثل:

مصر يا امّه يا بهية

يا أم طرحة وجلابية

ورغم ذلك الاحتفاء الكامل بالروح الوطنية، إلا أن الثنائي قد “إمام ونجم” قد اعتقلا وأودعا السجن، بحكم مؤبد، حتى تم الإفراج عنهما بعد اغتيال السادات.

وفى منتصف التسعينات آثر الشيخ إمام الذي جاوز السبعين العزلة والاعتكاف في حجرته المتواضعة بحي الغورية، ولم يعد يظهر في الكثير من المناسبات كالسابق، حتى توفي في هدوء في السابع من يونيو 1995 تاركًا وراءه أعمالًا فنية نادرة.

جامع تراث الشيخ

قال سيد مهدي عنبة؛ جامع تراث الشيخ إمام ومؤسس جمعية محبي الشيخ إمام، إنه تعلق بالشيخ إمام قبل أن يلتقيه بفترة طويلة، منذ أن سمعه عام ١٩٧٥ بالصدفة أغنية “فاليرى جيسكار ديستان”، وشدّته بساطة الكلمات وعمقها والأداء الكاريكاتيري للشيخ إمام، وبدأه البحث عن الرجل، مضيفًا أن هذا الوقت كانت توجد إذاعة مصر العروبة وإذاعات ليبيا اللتان تذيعان أغاني الرجل، وفي عام ١٩٩٠ كان اللقاء المباشر وجهًا لوجه شخصيًا.

واستطرد أن اللقاء الأول كان في منزله -عنبة-، وكان عقب صلاة المغرب، وبالفعل أتى صديق له ومعه الشيخ إمام، وبعد المقابلة بدقيقتين أذن المغرب وصلى الشيخ، وكانت بالنسبة له مفاجأة، لما تردد وقتها أنه شيوعي، ومع أول لقاء عرف أن روحه خفيفة مقبلًا على الحياة وسريع البديهة، فبمجرد أن قدم لهم العنب غنّى قائلًا: «عنبو عنبو عند الأستاذ عنبة».

وتابع أن الشيخ إمام كان قارئ سورة مسجد الشيخ يحيى الملاصق لمنزله بحوش آدم، في سنواته الأخيرة، وذكر هذا المسجد في قصيدة “حوش آدم”، وكان يترك سيارته في أبعد نقطة ممكنة عن المسجد، لحبه المشي، وكانا يلتقيا كل أسبوع في حفلة أو أمسية أو سهرة عند أي منهما في منزله، حتى أصبحت عادة.

واستطرد أن أسرة “نور الدين” من منطقة المعادي هي من اهتمت بالشيخ إمام من ١٩٧٢ وحتى وفاته، وتجمع كل أغانيه وبعض الأشياء من ملابسه ونظاراته وأوسمته وشهادات التقدير التي حصل عليها.

محبو الشيخ إمام

وكانت جمعية محبي الشيخ إمام للفنون والآداب قد أقامت تجمعًا يوم الجمعة الماضي الثاني من يونيو، بمركز الرَبع الثقافي بشارع المعز لدين الله الفاطمي، بالجمالية، تزامنًا مع الذكرى 28 لرحيله، والجمعية مؤسسة ثقافية مصرية أسسها سيد مهدي عنبة؛ جامع تراث الشيخ إمام، وأشهرت في عام ٢٠١٥، ومقرها بالدور الثاني بالعقار رقم ٦ شارع البطل أحمد عبد العزيز المتفرع من شارع محمد صبري أبو علم بوسط القاهرة بجوار وزارة الأوقاف، وتضم الجمعية المقتنيات الشخصية للراحل وعدد من رفاق مسيرته من كبار شعراء العامية المصرية، كما تحتوي على مكتبة تجمع عدد كبير من الكتب الصادرة عن الشيخ ومذكراته ودواوين رفاقه.

والتقينا بالتجمع الشهري لمحبي الشيخ إمام ببعض الشباب والشعراء والموسيقيين الذين أتوا لإحياء ذكرى الراحل، الذي يعد في نظرهم أيقونة للثورة والتغني للطبقات الأشد احتياجًا.

وقال محمود أبو زيد؛ محاسب ومن محبي الشيخ إمام بالتجمع الشهري، إن “الوطنية” أهم ما يميز أغنيات الشيخ إمام ذات النظام الشعري أو الزجلي، الذي يحمل طابعًا حماسيًا لإثارة الروح القومية والانتماء والتضحية لأبناء الوطن.

وأضافت رانيا سعدون؛ صيدلانية ومن محبي الشيخ إمام بالتجمع الشهري، أن الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، في العصر الحديث يرجعون إلى الأذهان ظاهرة الصعاليك في التراث العربي، ولكنهم لم يقولوا شعرًا فقط، بل غنّوه، وأصبح لهم جمهورًا كالصعاليك القدامى.

وأشار حسام عبد الفتاح؛ عازف عود ومن محبي الشيخ إمام بالتجمع الشهري، إلى أن النسيج الموسيقي في أغاني الشيخ إمام علاقة نغمية إيقاعية بين اللحن والهارموني، تثير حماس المستمع وتشعل رغبته في التغيير، لذلك تعد كظاهرة اجتماعية، وليست فقط للتعبير عن الظروف الاجتماعية ولكن تبديلها.

الشيخ إمام والشاعر نجم

قال أمير العمري؛ الناقد السينمائي والكاتب الصحفي، في دراسته لفن الشيخ إمام في كتابه “الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب” الذي صدرت طبعته الأولى في 2010 عن مكتبة مدبولي، إن بعض أغاني الشيخ إمام توصف أحيانًا بأنها أهم من قراءة مئة كتاب عن مصر، فقد تعلمنا منها كيف يكون لحب مصر معنى حقيقي، مجسد ومصور، وليس مجرد أطياف غامضة لشعار نردده بمعزل عن الناس الموجودين في الشارع وفي المصنع وفي الحقل.

وبيّن أن ظاهرة “إمام – نجم” كانت على أشدها بمصر في الفترة ١٩٧٠ إلى ١٩٧٦، ثم أصبحت على ذروتها خارج مصر، بعد ذلك، حتى بعد رحيله وأثناء ثورة الشعب المصري في يناير ٢٠١١، كانت أغاني الشيخ إمام حاضرة بقوة، وقد شهد منزل الشيخ بحوش آدم بالقاهرة، وفود الطلاب والمثقفين أفواجًا واستماعهم إليه، وفي حفلات متفرقة في الجامعة، كما بدأ الناس في تلك الفترة اقتناء التسجيلات ومخطوطات الأشعار التي كتبها أحمد فؤاد نجم وغيره من شعراء الثورة والغضب.

ويذكر العمري أن الشاعر نجيب سرور حضر إحدى الحفلات، وكان سرور صاحب مواهب متعددة، فغنى له أغنية “البحر بيضحك ليه” ويقول فيها:

بيني وبينك سور ورا سور

وانا لا مارد ولا عصفور

في إيدي عود قوال وجسور

وصبحت أنا في العشق مثل

مشيرًا إلى أن الألحان كانت تولد في الحفلة نفسها، والشاعر حاضر مع المغني، ليس مع “نجم” وحده، بل كل الشعراء الذين غنى لهم الشيخ إمام.

وأوضح أن أغاني الشيخ إمام لم تكن كلها تحريضية سياسية، بل متنوعة، فله أغنية “حفلة ذكر” التي يسميها البعض “الله حي” التي تحمل أجواء الفكر الصوفي والاندماج مع المجموعة المرددة:

الله حي .. الله حي

وسّع سكة يمُرّ الضَيّ

مشيرًا إلى أن الأغنية من إبداعات “نجم” العاطفية الراقية جدًا، وقد ارتقى بها غناء الشيخ إمام وموسيقاه إلى آفاق جديدة:

وانا اللي في هواكي سبقت المعاد

يا سالمة يا عشق البنات والولاد

فيقول الشيخ إمام مرددًا:

وطلعت صورتك في كل البلاد

وكبرت فيها الأمل في اللي جيّ 

مضيفًا أن كلمات نجم وأداء الشيخ إمام خلقت حالة وجدانية شديدة الخصوصية، من الانتشاء والطرب، والحماسة والفوران، والحب الصوفي العميق، والرغبة في التعبير عن كل ما يعتمل داخل القلوب من انتماء للوطن، ورفض في الوقت نفسه لما يرتكب باسمه على صعيد السياسة.

وبيّن العمري أن شغب الثنائي قد جلب لهما المنغصات في الكثير من حفلاتهما، فقد يقطع الأمن الكهرباء عن المكان، لكي يرغم المغني ومستمعيه على الانصراف، غير أن الشيخ لم يكن يبالي، بل كان يستمر في الغناء، ولم يكن الطلاب يبالون معه، كما يحكي المؤلف، ساردًا طرفًا من سيرته الذاتية مازجًا إياها مع سيرة هذه الظاهرة “نجم وإمام”، فالترتيب بينهما يجوز تقديمًا وتأخيرًا لأيهما شئت.

الشيخ إمام في عيون النقاد

وحول ظاهرة الشيخ إمام، قال العمري نقلًا عن الدكتور فؤاد زكريا، إنها ذات طابع فريد، لأنه استطاع بالفعل أن يهز المشاعر، والصواب وصفه بالفنان، إذ إن ما يقدمه للناس ليس موسيقى أو ألحانًا فحسب، بل عمل متكامل تتضافر فيه جهود الشاعر المرهف والملحن الحساس والمنشد المتحمس، في وحدة وثيقة وارتباط عضوي عميق.

وأضاف العمري أن الشيخ إمام لم يقف عند شعر أحمد فؤاد نجم فقط، فقد لحن لفؤاد قاعود، ونجيب شهاب الدين، ومحمد جاد الرب، وزين العابدين فؤاد، وسيد حجاب، كما غنى لعبد الرحمن الأبنودي بعد خلافه مع “نجم” وانفصاله عنه.

وهبت عمري للأمل ولا جاشي

وغمرت غيطي بالعرق ما عطاشي

وراعيت لمحبوبي هواه ما رعاشي

وقال الدكتور إبراهيم يسري؛ مدرس الموسيقى العربية بكلية التربية بجامعة حلوان، إن الأغنية الوطنية من أكثر العلامات المعبرة عن هوية الشعوب، وقد قدم الشيخ إمام العديد من الأغنيات الوطنية التي عبرت عن هوية المجتمع المصري ومشكلاته وواقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيما بعد ثورة يوليو 1952، مشيرًا إلى أن للشيخ أسلوب تلحين خاص، حيث اختياره للمقامات والإيقاعات والطبقات الصوتية وأسلوب الأداء وغيرها من العناصر الفنية المختلفة، ما أدى لانتشارها في الشارع المصري والعربي على السواء وارتباطها بالثورات العربية.

وأضاف أن أهم ما يميز أسلوب الشيخ إمام من خلال أغانيه؛ سلاسة الألحان وبساطتها وسهولة حفظها، مما أدى إلى سهولة انتشارها، واستخدامه للمقامات العربية المحببة لدى الشعب المصري، فضلًا على موضوعات الأغاني التي كانت تعبر عن واقع ومشكلات المجتمع وأفراحه التي تمس الناس بشكل مباشر، مما أدى إلى تعلق الناس بها، كما أن طريقة الأداء الدرامية التي تميز بها الشيخ إمام لما يقدمه من أغانٍ.

أخيرًا، لم هنالك من تكريم للشيخ إمام أشد فخرًا من احتفاء شباب ثورة يناير 2011 بأغنياته التي ظلت حاضرة معهم.

صباح الخير ع الورد اللى فتح في جناين مصر

صباح العندليب يشــــدي بألحان السبوع يا مصر

صــبـاح الدايه واللفه ورش الملح في الزفه

صباح يطلع بأعلامنا من القلعه لباب النصر