مثّل الانتصار الصعب لليسارى لولا دا سيلفا برئاسة البرازيل، التتويج الأحدث لسلسلة من القادة اليساريين الذين اعتلوا الحكم فى 6 اقتصادات لاتينية كبرى، إثر موجات من الفقر والفساد والأوضاع الاقتصادية الصعبة التى عانتها شعوب تلك الدول.
وحسب صحيفة «نيوريورك تايمز»، فإن الأعوام القليلة الماضية شهدت انتخاب عدة رؤساء ينتمون إلى اليسار فى 6 دول لاتينية هى تشيلى، وهندوراس، وبيرو، والأرجنتين، وبوليفيا والبرازيل، كما طال المد اليسارى المكسيك فى أمريكا الشمالية.
وقالت الصحيفة إن الباعث وراء هذا التحول فى 6 من أكبر الاقتصاديات فى أمريكا اللاتينية بعيدا عن يمين الوسط واليمين هو المعاناة الاقتصادية والفقر والفساد وانعدام المساواة وإساءة إدارة جائحة كوفيد.
التحول نحو اليسار
وفى الواقع، فإن التحول صوب اليسار بدأ فى المكسيك عند انتخاب اندريه مانويل لوبيز أوبريدور الذى اكتسح الانتخابات التى أجريت فى يوليو 2018.
وأعلن أوبريدور فى خطابه ليلة استلام السلطة: «الدولة لن تكون مجرد لجنة مكرسة لخدمة الأقلية وستمثل جميع المكسيكيين، فقراء وأغنياء».
وفى العام التالى فى الأرجنتين، تم انتخاب رئيس ينتمى لحزب يسار الوسط هو الرئيس البرتو فرنانديز مكتسحا منافسا محافظا.
وفى عام 2020 فاز لويس أرس بسباق الرئاسة متخطيا المنافسين المحافظين ليصبح رئيسا لبوليفيا.
وفى 28 يوليو 2021، استلم بدرو كاستلو الذى يعمل مدرسا فى أحد المناطق الريفية رئاسة بيرو مما سبب صدمة للأوساط السياسية هناك.
وفى ديسمبر 2021، فاز مرشح أقصى اليسار غابريال بوريك البالغ من العمر 35 عاما فقط فى الدور الثانى من الانتخابات الرئاسية على مرشح اليمين المتطرف خوسيه أنطونيو كاست.
ووعد بوريك فى خطاب أمام حشد من أنصاره بتحقيق المزيد من «الحقوق الاجتماعية» مع مراعاة «المسؤولية المالية».
وفى هندوراس، فازت زيامارا كاسترو فى يناير 2022 لتصبح أول سيدة تصل لهذا المنصب.
وفى 30 أكتوبر 2022، فاز اليسارى لولا دا سيلفا فى الانتخابات الرئاسية البرازيلية، بعد تفوقه على منافسه الرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو، منهيا عهد أطول حكومة يمينية فى البرازيل منذ عقود.
الوعود الصعبة
ووعدت أحزاب اليسار بالتوزيع العادل للثروة وتحسين الخدمات العامة وتوسيع نطاق شبكات الأمان الاجتماعى.
لكن القادة الجدد باتوا يواجهون قيودا اقتصادية أكثر خطورة ومعارضة تشريعية أشد شراسة، مما يهدد بتقييد قدرتهم على الوفاء بتعهداتهم، وبجانب هذا بات الناخبون الناقمون أشد استعدادا لمعاقبة القادة الذين يخفقون فى تحقيق المطلوب منهم.
ويرى بدرو مينداس لورووا، الأستاذ بجامعة كامبريدج لدراسات أمريكا اللاتينية أن ارتفاع معدلات التضخم والركود الاقتصادى سيسهم فى تعقيد مهمة القادة الجدد وتزايد صعوبة إحداث تغيير حقيقى على صعيد المشاكل الأشد إلحاحا.
وأضاف أن الناخبون قد اختاروا اليسار نكاية فى الرؤساء الحاليين ولأنهم يشكلون المعارضة وقت انعقاد الانتخابات.
وارتفعت معدلات الفقر فى دول أمريكا اللاتينية لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ عشرين عاما، بعد أن أدى انتعاش قصير الأجل فى السلع إلى تمكين الملايين من الصعود إلى الطبقة الوسطى فى مطلع القرن الواحد والعشرين.
وتواجه العديد من البلدان معدلات بطالة فاقت الـ%9 بجانب توظيف عمالة تزيد نسبتها عن %50 فى القطاع غير الرسمى.
وتدهورت الثقة فى القادة والمؤسسات العامة بعد الكشف عن الكثير من فضائح الفساد وانهيار البنية التحتية والنظام الصحى والتعليمى.
وخلافا للسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين عندما فاز اليسار باكتساح فى أمريكا اللاتينية، فإن القادة الجدد باتوا يواجهون مخاطر ارتفاع الديون وضعف الميزانيات وصعوبة الحصول على الائتمان وتزايد شراسة المعارضة فى الكثير من الأحيان.
«ديمقراطية بلا حلول»
ستجد الولايات المتحدة صعوبة أكبر فى مواصلة عزل الأنظمة اليسارية السلطوية فى فنزويلا ونيكارجوا وكوبا، نتيجة التحول الحالى نحو اليسار.
ولم تقدم الديمقراطية حلولا لشعوب المنطقة، بحسب إيريك هيريشبيرج مدير دراسات أمريكا اللاتينية لدى الجامعة الأمريكية.
وأضاف أن أفراد الطبقتين الوسطى والعاملة باتوا يقولون إنهم بعد تطبيق الديمقراطية لفترة تصل إلى ثلاثين عاما فإنهم لا زالوا يركبون أتوبيسات متهالكة لمدة ساعتين لكى يصلوا إلى عيادات تقدم خدمات طبية سيئة.
وأشار إلى وجود شعور عام بأن النخب الفاسدة التى تمكنت من مراكمة الثروات لم تعمل للصالح العام.
ويصب صعود اليسار فى صالح الصين ويقضى على آمال الولايات المتحدة، حيث إن القادة الجدد فى أمريكا اللاتينية لديهم رغبة جامحة فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاستفادة بقدر أكبر من استراتيجية بكين التى تتضمن تقديم القروض وضخ استثمارات فى مشاريع البنية التحتية، بحسب المحللين.
وتقول جينفر بربل أستاذة العلوم السياسة لدى جامعة ريتشموند إن حصيلة الوفيات التى سببتها جائحة كورونا فى المنطقة قد زادت من شعبية مبادرات يسارية مثل الدعم النقدى وبرامج الرعاية الصحية الشاملة.
وتابعت: «يهيمن على الناخبين فى أمريكا اللاتينية إحساس بما يمكن أن تفعله الدولة وبأهمية انخراطها لإعادة توزيع الثروات وتوفير الخدمات العامة، وتنعقد الانتخابات هناك وسط شعور بأن اليسار يستطيع أن يحقق هذه الأهداف بفاعلية أكبر مقارنة بالأحزاب ذات التوجهات اليمينية» .
لولا يواجه الاختبار الأصعب
وفى تقرير لوكالة بلومبرج، تم الكشف عن أن الرغبة فى تفادى توقف دفع المساعدات الاجتماعية هو السبب وراء سعى الرئيس البرازيلى لولا دى سيلفا لإعلان خطة إنفاق مليارية.
وفى إشارة إلى المصاعب التى تواجه رئيس البرازيل لولا دا سيلفا تقرر تأجيل الإعلان عن الخطة التى طال انتظارها وسط البحث عن موارد لتمويل هذه الخطة.
وكان الرئيس المنتهية ولايته جاير بولسونارو، قد مرر برنامج يمنح دعم نقدى للأسر بقيمة 600 ريال برازيلى شهريا، لكن مخصصات البرنامج تراجعت فى ميزانية العام المقبل إلى 400 ريال برازيلى شهريا، مما يجعل «لولا» بحاجة إلى 50 مليار ريال برازيلى إضافية (تعادل 10 مليارات دولار) للإبقاء على المساعدات الشهرية عند مستواها القائم.
وقدم لولا وعودا بزيادة المساعدات الاجتماعية للأسر الفقيرة التى تعول أطفالا بعمر أقل من 6 سنوات، ووعد كذلك بإعفاء المزيد من الفئات من ضريبة الدخل وزيادة الحد الأدنى للأجور بمعدل أعلى من التضخم ليصل إلى 1320 ريالا شهريا.
ويحتاج «لولا» إلى تمويل يتراوح بين 160 إلى 200 مليار ريال برازيلى لدعم هذه الوعود.
لكن الحجم الضخم لخطة إنفاق «لولا» أثارت قلق الأسواق المحلية، حيث تراجع سعر صرف الريال البرازيلى الأسبوع الماضى بنسبة %1.2 مقابل الدولار الأمريكى إلى 5.12 ريال، مما جعل الريال البرازيلى يسجل أسوأ أداء من بين عملات الأسواق الناشئة.
ويتعين على «لولا» تخطى عقبة أساسية تتمثل فى ضرورة موافقة الكونجرس قبل تمرير الخطة التى تتخطى حجم الإنفاق الذى يتحدد على أساس معدل التضخم المسجل فى العام السابق، بحسب الدستور البرازيلى.