ما أشبه لبنان -راهنًا- بلا عاصمة احترقت للتو، مثل مصر حين احترقت عاصمتها قبل نحو سبعين عامًا، من فاعل مجهول، إيذانًا بإفلاس نظاميها السياسيين، إذ تغير جذريًّا بعد ستة أشهر من حريق القاهرة، فيما تجمع السلطة (بفارق زمنى فى البلدين)، مركزى الفكر العربى، بين ضراوة الحراك السياسى- لعقود سابقة- وبين فساد الطبقة الحاكمة، سواء بتسيير المظاهرات الاحتجاجية أو الاغتيالات السياسية سواء بسواء، إلا أن حجم الكارثة التى نزلت بالعاصمة اللبنانية 4 أغسطس الحالى، بات مدعاة لتشاؤم تاريخى أكبر، خاصة مع استلاب ميليشيات السلاح.. صلاحيات الجيش اللبنانى فى السيطرة على أمن البلاد فى الداخل وعبر الحدود، على عكس ما جرى بمصر 1952.. من قدرة المؤسسة العسكرية على الإمساك بزمام الأمور، الأمر الذى يعبر عنه كثيرون من اللبنانيين برغبتهم فى عودة «الانتداب» الفرنسى (ولو بشكل مغاير) بعد قرن من إعلان استقلال «لبنان الكبير»، ربما أملًا للخلاص من فرض السلاح (غير الشرعي) حمايته على السلطة السياسية (المفترض مشروعيتها)، إذ تحوم الشكوك عند وقوع انفجارات حول اتهام السلاح بأنه وراء التخريب، حتى قبل أن تتبين أسبابه.
إن لبنان ذات الهوية الخاصة، ثمرة لقاء الثقافات المختلفة، وضحيتها فى الوقت نفسه، منذ برزت على مر الزمن كنموذج للعيش المشترك، إلا أن هذا التعايش بات هشًّا للغاية منذ انعكست تعقيدات الحرب والسلام فى المنطقة، ليصبح- لبنان- الفائض الجغرافى والسياسى والأيديولوجى لمشاكل الإقليم، ورغم محاولات عديدة لتجنيبه هذا المصير منذ 1958 (الشهابية) إلى 1989 (الإعمار بعد الحرب الأهلية) إلا أن الشوط لا يزال طويلًا لكى يولد لبنان من جديد، حرًّا وقويًّا، خاصة مع تداخل قوى إقليمية ودولية فى شئونه الداخلية أو تحركاته الخارجية بسيان.
إلى ذلك وفى سياقه، يبرز «حزب الله» للوجود السياسى اللبنانى.. بالتزامن مع طرد منظمة التحرير الفلسطينية، إبان غزو إسرائيل.. للبنان 1982، ربما كضرورة بديلة لانحسار المقاومة الفلسطينية عن مواجهة إسرائيل، وسرعان ما أصبح الحزب الناشئ قوة سياسية لها وزنها، بدعم من الوصاية السورية على لبنان- حليفة إيران، ولتتعزز أوضاعه بعد الانسحاب الإسرائيلى من جانب واحد عن الشريط الأمنى الحدودى فى جنوب لبنان العام 2000، الذى سبق لإسرائيل احتلاله منذ العام 1978، وليحلق الحزب فى سماء السياسة اللبنانية والعربية بعد بلائه فى حرب صيف 2006 ضد إسرائيل، إلى أن أصبح- بالتراكم- العنصر الفاعل فى الاستراتيجية الدفاعية، وفى اختيار رموز الرئاسات اللبنانية الثلاث، ساعده فى ذلك… فضلًا عن تحالفاته المحلية والعربية والإقليمية.. تضخم ترسانته المسلحة الحديثة- إلى جانب كونه تنظيمًا عقائديًّا ملتزمًا.. له أهدافه الخاصة التى ليست بالضرورة متوافقة مع الأولويات اللبنانية، التى استطاع تطويع غالبيتها بشكل أو آخر، ما كرس من حالة الفساد.. والإقطاع السياسى اللتين عانى منهما الشعب اللبنانى عقوداً طويلة، دفعه إلى الثورة على النظام والطبقة السياسية فى أكتوبر2019، مطالبًا بالتغيير الجذرى، الأمر الذى وضع أركان النظام.. فى مقدمتهم «حزب الله» فى مأزق مع حلفائه بالنسبة للإبقاء على المغانم التى يتقاسمونها منذ انتهاء الحرب الأهلية 1975 – 1989، يفاقمه ما يتعرض له النظام من أزمات سياسية واقتصادية ومالية وصحية، ناهيك عن احتمالات حرب محتملة ربما يجهز لها قوى اليمين فى إسرائيل وأميركا لأغراض انتخابية تبدو معاركها قريبة، تهدد مستقبلهما السياسى إلا إذا خاضا حرباً ناجحة ضد النفوذ الإيرانى، ووكلائه فى سوريا ولبنان. على صعيد مواز، تستأنف الجماهير اللبنانية ثورتها ضد النظام السياسى والطبقة الحاكمة، وعلى مظاهر الفساد، ذلك وسط توقعات بالإطاحة بالحكومة التى يقطع حزب الله الطريق على استقالتها، وعلى رموز النظام، فيما تنتصب المشانق فى الشوارع لرموز الحكم.. إعرابًا عن الغضب الشعبى من إهمال السياسيين الجسيم الذى أدى إلى انفجارات ميناء بيروت، وضواحيه، وفى مقدمتهم مسئولو «حزب الله» قبضاى بيروت ومرافقها، بأقله، طوال العقد الأخير فى الوقت الذى يتزايد الانقسام السياسى بشأن معارضة «الرئيس» إجراء تحقيقات دولية، وكأن الحال بالمريب- وحلفائه- أن يقول «خذونى»، ذلك بينما أصبحت بيروت التى كانت متلألئة.. فى عين فوهات الجحيم