ما بين مصر وتركيا تاريخ حافل بأحداث دراماتيكية متباينة، من غشم الاحتلال للمصاهرة الشعبية، وما بين الحرب البينية والولاية الاسمية، ومن الدبلوماسية الباردة إلى التنافس الإقليمي، وصولًا ربما لمرحلة «عجم العود» للعلاقات بينهما من بعد أن شهدت فى العقدين الأخيرين ما يمكن اعتباره صراع وجود بين أحلام طورانية لإحياء «العثمانية الجديدة» مجددًا.. وبين تصديات مصرية لمحاولات تركيا تطويعها تحت راية الاستعمال السياسى للإسلام (برعاية أميركية).. فيما عُرف بانتفاضات الربيع العربى التى باتت منذ العام 2011 المدخل لانخراط تركيا- بالقوات والتآمر- فى الشئون الداخلية للدول العربية؛ بغية الهيمنة مجددًا على «المسألة الشرقية»، من النيل والفرات، إذ دارت الحروب – بالوكالة أو بشكل مباشر- من العراق وسوريا، إلى سيناء وليبيا.. مرورًا بالسودان والصومال، وحيث شاركت مصر لمواجهتها- بالقوة والحكمة معًا- دفاعًا عن نفسها وعن الأمن القومى العربى بسيان.. طوال السنوات العشر الأخيرة التى انتهت بإخفاقات ميدانية تركية متتالية.. تدفع أنقرة اليوم إلى التفكير فى اللجوء للتخلص من معركتها المحورية مع مصر- تحديدًا- بلا غالب أو مغلوب بالمطلق، إلا من رغبة تركية لأن تتفرغ لامتداداتها الاقتصادية والتجارية داخل الإقليم من ناحية، ولما يتصل من ناحية أخرى بخطوط الغاز والطاقة عبر ترسيم الحدود المائية للجرف القارى لتركيا شرق البحر المتوسط، إيذانًا بتحسين العلاقات مع مصر.. وصولًا نحو سلام دائم بينهما، أو إلى هدنة مؤقتة تعيد تركيا من خلالها ترتيب أوراقها.. ربما قبل استئناف ما درجت عليه مناوراتها الأيديولوجية منذ العام 2002، ما دام حزب العدالة والتنمية قابضًا على زمام الحكم، ولأن يستمر من ثم احتلالها (من عدمه) لدولتى نهر الفرات العربيتين- العراق وسوريا- المعرضتين لقرارات أنقرة الأحادية بتقليص المياه المتدفقة إليهما من أعالى النهر فى تركيا (سد أتاتورك 77 مليار متر مكعب)، ناهيك عن رفض تركيا سحب قواتها من ليبيا إذ ترهن التسوية السياسية، بمشاركتها، ذلك رغم «دعوة مجلس الأمن لانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا دون مزيد من التأخير»، إذ تمثل هذه التصرفات التركية «بعضًا من كل».. يتناقض مع اشتراط القاهرة لتحسين العلاقات مع تركيا.. مراعاتها مقتضيات الأمن القومى العربي، كما تأتى مناقضة لما جاء فى بيان وزراء الخارجية العرب، مطلع مارس الحالي.. بالنسبة لوقف التدخل التركى فى شئون العرب الداخلية، الأمر الذى يلقى شكوكًا متزايدة حول مصداقية تصريحات الرئيس التركي، ووزير خارجيته، بشأن تحسين العلاقات مع مصر (والسعودية والإمارات)، وهو ما أجابت عليها مصر عبر «متحدث رسمى» (لم يذكر فى بيانه تركيا بالاسم)، حيث اشترطت عودة العلاقات الطبيعية مع كل ما يلتزم بقواعد القانون الدولي، وتبادل مبادئ حسن الجوار، والكف عن التدخل فى الشئون الداخلية لدول المنطقة، الأمر الذى يبدو أن تركيا لم تعطه أذنًا مُصغية حتى الآن.
إلى ذلك، يبقى السؤال مطروحًا عما الذى يدفع تركيا إذن لإعلان نواياها باتجاه التفكير إلى سابق سياستها «صفر مشاكل»- المهدرة- مع دول الجوار.. إلا أن يكون بعض جيرانها قد أعطى ملاذًا لنشاط حركات المعارضة التركية (جماعة جولن- حزب العمال الكردستاني) وما إلى غير ذلك من جبهات أخرى للمعارضة تمثل نصف الأتراك ممن يرفضون حكم «أردوغان» الذى بدا بتصريحاته المفاجئة الأخيرة كمن ينزل من فوق شجرة الغرور التى اعتلى أغصانها طوال السنوات الماضية لمواجهة خصوم أحلامه العثمانية، خاصة من بعد أن لمست تركيا طرقًا مسدودة، سواء على الصعيد الدولى.. من الإدارة الأميركية الجديدة- حلف ناتو- الاتحاد الأوروبي، وحتى من جانب محاولات حليفها الروسى المستحدث ترويض طموحاتها، أو سواء على الصعيد الإقليمى حيث تحاصر العزلة امتداداتها العسكرية والاقتصادية.. إلى جانب فشل اختراقاتها لجماعات العنف العاملة تحت ستار الاستعمال السياسى للإسلام فى المنطقة.
خلاصة القول فى ضوء ما سبق، ليس من مصلحة أحد فى المنطقة أو خارجها، التصعيد مع تركيا إذا كانت بالفعل صادقة فى جنوحها نحو الكفّ عن أوهامها التوسعية، إلا أنه من الخفة السياسية.. ركون دول المنطقة إلى مجرد تصريحات تركية لم تثبت جديتها بعد.. لربما تخفى من النوايا غير الصديقة ما يفوق صداها طَرق تركيا أبواب التفاهم مع مصر «بلا شروط».