أصبح العالم فعليا مؤخرا، بحرا تتلاطم فيه الدول بالأحداث القدرية والبشرية، لتطفو فيه المصالح والوعى والحريات والتوجهات كجزر، وتتصارع أخرى أو تغرق أو تُغرق، لإعادة تشكيل الواقع فى رحلة المستقبل! يتسع هذا الواقع لمجتمع الدول وما تتكون منه وحداتها، لأصغر كيان بها كشركة أو نادٍ أو جزيرة مثلا!
أما الأحداث القدرية فلا راد لها إلا الله، وأما الأفعال البشرية الشخصية، فلو بالخطأ فتُقوّم بالقانون، ولو بقصد الإضرار بالغير فيلزمها وقفة! خصوصا لو استُغلت لتغريق الجزيرة لدرجة جرح وتضليل الحقوق والحريات والحدود بها.
من هذه الأفعال ما تم مؤخرا بجزيرة القاهرة، بسبب تداول غير قانونى مُضلل بمنصات التواصل الاجتماعى لصور واقعة شخصية وخاصة جدا، داخل موقع معزول بواحد من أعرق نواديها. أنجب هذا التداول المشبوه زخما من التصرفات القانونية والإدارية والإعلامية والدينية والسياسية، بصورة جاوزت بحر مصر لخارجها، وصممت صورة ذهنية جديدة لجزيرة وعيها بالقانون والحقوق والحريات والحدود!
مع احترامى لكل تناول وتصرف إزاء هذه الواقعة، إلا أن دراسة الوعى الشخصى والجمعى، قضيتى المفضلة لفهم الامور، لتحجيم آثارها وتدبرها. قرعت هذه الواقعة جرس الوعى المصرى بشدة، لدرجة إحساسى بمحاولات تفريق دمها بين القانون والدين والإدارة والسياسة والاجتماع والإعلام، لتصل لمحاولة خبيثة لتغريق جزيرة الوعى المصرى، اعتمادا على تضفير تابوه الجنس، بالعمر المتقدم، بإساءة استخدام التكنولوجيا، بهوس النقد، بجلد الذات، لتقديم منتج بشع يقتل الحرية الشخصية والحق فى الخصوصية ويجرح صحيح القانون، تلاعبا بتأثير الميديا فى قيادة الحدث.
فيكون زج الصور بالفيسبوك كرة ثلج نامية تبتلع أو يتعلق بها الجميع، إما شهرة أو نكاية أو اتصافا بالالتزام أو إحراجا أو توجها. النتيجة أن احتفالية خاصة، بمكان وظروف تخضع لحماية القانون، أصبحت عبئا جديدا على ملف الحرية الشخصية والخصوصية وتعامل المجتمع والإدارة والدين معها، ولم يتم ذلك إلا لخصوصية وتميز أطراف الواقعة (المكان، المُحتفلات، وموضوع المخالفة).
لعلنا نتذكر تصوير احتفال الممثل المغمور فى 2016 بأعياد 25 يناير، بإهداء جنود الشرطة بميدان التحرير (واقيا ذكريا) كبلالين عنوانها (من شعب مصر للشرطة فى 25 يناير) ونشر الفيديو بالفيسبوك! رد الفعل وقتها تناسب مع ظروف الواقعة وأُحيل الناشئ للتحقيق بالنقابة وأُوقف عمله، ونشر اعتذارا بصفحته وانتهى الموقف .. ولكن لم يشطب من النقابة مثلا أو صدرت له فتوى من الأزهر أو تصريحات من وزراء!
لذلك، فالقضية الحقيقية هى تجاهل المجرم الحقيقى لتصوير حدث شخصى لا يخضع للقانون، وتداوله بنية خبيثة خالفت القانون، ليورط التجاهل، المجتمع بطبقاته وكياناته فى حرج سيُعلم تداعياته مستقبلا، عن الصورة الذهنية العالمية التى طفت بجزيرة الوعى المصرى المُضلل.
لا أدافع أو أبرر الواقعة أو موضوعها ودلائلها، ولكن كمحامٍ وكاتب يلزمنى الانتصار للحق والموضوعية مجردا. فمن جهة مكان المخالفة بوصف القانون، ليس مكانا عاما يصح فيه التصوير مطلقا، فهو غير متاح لعموم الناس، ودخوله بشروط، وموقع الواقعة ذاته (مكانيا وزمنيا وقتها لظروف كورونا) لم يتوفر به تواجد الغير! كذلك لا يوجد قانون يحدد شكل المخبوزات أو يحرمها ولم تطرح للبيع أو الزوار، وانفتاح المكان قضائيا، لا يبيح قانونا عذر جرح الخصوصية أو الحرية الشخصية أو اغتيال رضاء الشخص بالتصوير قسرا أو خفية بزعم نصرة الحق وكشف مفسدة، لتضمنه جلبا لمفاسد أشد ضررا باستباحة الحياة الخاصة. بل إن التصوير تم بخاصية “الزوم” لتقريب الصورة لأشخاص لا يعرفون أنهم يتم تصويرهم للتداول!
الواقعة برمتها تصرف شخصى بحت، فى إطار حرية شخصية وخصوصية داخل حدود مكانية، انتفى فيها أى قصد جنائى لإفساد الغير أو إغوائه أو إثارته! ولم تشكل وقتها أى جريمة أو مخالفة، بل انتهت بانتهاء الحدث واستهلاك المخبوزات وعدم شكوى أى شخص حينها عن تضرره منها أو سلوكيات أطرافها (وإلا لأبلغ الإدارة فورا للتصرف بحكمة تناسب الأطراف).
الأزمة ظهرت بتداول السوشيال ميديا لصور الواقعة بعد زوالها، بدليل مُجرم عن ظروف واقعة غير مجرمة، وجُرمت بعدها .. هنا الجريمة الحقيقية!
أصبح التصوير الباطل هو الراعى الخبيث لحزمة التداعيات المستفيد منها كل فريق حسب رؤيته ومصلحته، لتضرب بمقتل واحدة من أخص وأقوى صفات تقدم أى دولة، وهى الحرية الشخصية وحق الخصوصية واحترام الحياة الخاصة وتطبيق صحيح القانون. فإذا استحقت تبرئة القضاء لجرائم لبطلان التفتيش أو الأدلة، فهل سيوصم ما تم بالظلم؟
هذه الواقعة جرس لمن يقود ويشكل الوعى المصرى الآن، بل ويغرقه كيفما ووقتما شاء!
منصات التواصل الاجتماعى أصبحت الكرباج المسّوط لردود أفعال المجتمع والقرارات المضغوطة لرفع الحرج، بغض النظر عن الأضرار التى لا ولن تندمل من جرم الراعى الخبيث!
النتيجة المرعبة التهاب مزمن بالعلاقات وفتح الباب للتجرؤ وتجريح للرموز وتوريط القرارات واستحداث قيود ومراجعة حريات أخرى، وتعظيم لقدرة الكرباج وتطوير استخدامه كأداة مضمونة للتغيير بالتضليل والابتزاز والتنمر الإلكترونى، بعدما ثبت نجاح شراسته لتدمير حياة الأبرياء.
خطورة الكرباج هذه المرة، تصعيد دور التسويط لينال صور الحرية بمصر بعيون العالم، بما قد يصل لمحاولة تغريق جزيرة الوعى المصرى بصراعه ببحر تحديات لا تنتهى لقاع مظلم.
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
استفيقوا يرحمكم الله!
- محامى وكاتب مصرى
[email protected]