حقيقة الصورة

حقيقة الصورة
حازم شريف

حازم شريف

10:55 ص, الأحد, 6 يوليو 03

مضي وقت طويل.. منذ آخر مرة تراءت له نفسه فيها علي حقيقتها، أو أعتقد فيها علي الأقل أنه قد رآها كذلك، بكل ما يعتمر بها من تناقضات.. صراع الشيء ونقيضه في إطار القانون الأبدي لمولد الجديد من القديم، ثم تواري الجديد ذاته مرة أخري، بعد أن يصبح بدوره قديما، لحساب المولود الجديد.

وقف يتأمل المارة من وراء النافذة.. وهو ينفث دخان سيجاره الغليظ في مربع وهمي في الفراغ ـ لا تتعدي مساحته عدة  سنتيمترات مربعة ـ يحده ويخترقه في آن واحد فوهة السيجار وزجاج النافذة وأنفه الممدود علي حافتها وشفتيه الغليظتين المبرومتين من شدة ما يشعر به من الحنق.

اخترق شعاع نظره جزيئات الزجاج، رغم تشويش الدخان المتصاعد، والأضواء المتوهجة القادمة من الخارج، فأبصر طفلا صغيرا، غادر لتوه ذراع والدته، وأطلق العنان لساقيه، مهرولا إلي قلب الحديقة المتسعة، المجاورة لحافة الطريق، غير عابئ بصرخات أمه الغاضبة، ولا بالأصوات المتعاطفة معها من جانب المارة العابرين.

تعثرت خطاه المتلاحقة، عجز عن الركض، لم تقو قدماه الغضتان علي التحليق به بعيدا، وقف لالتقاط الأنفاس، غير منتبه لما يحدق به من خطر.. صار وحيدا، لا ينتمي لأي كائن من كان، وعليه الآن أن يواجه مصيره، معتمدا فقط علي حواسه، ورغبته في البقاء.

علي الجانب الآخر من الطريق.. أمسك شاب في مقتبل العمر زهرة وردية اللون، يلوح بها في وجه حبيبته، بينما أحاط خصرها بذراعه الآخر الحر،  غير عابئ بنظرات نارية لشاب ملتح يجلس بالجوار.

ابتسامة مشرقة لاحت في وجه امرأة عجوز، تسير ببطء في مواجهته، شجعته أن يمضي في سرد أحلامه القرمزية، بل وأن يصبها صبا في أذن رفيقته الرقيقة المصغية، حتي أغمضت عينيها، وكادت أن تغيب عن الوعي من فرط عذوبته.

يظهر في الصورة أيضا شاب أكثر نضجا ـ أو هكذا يبدو ـ ترتسم عليه ملامح الثقة، ينظر في عمق إلي الأفق البعيد، لا يثنيه أي شيء ـ أو هكذا يعتقد في نفسه ـ عن مواصلة السير إلي الأمام في خطي ثابتة، لا تنحرف عن مسارها قيد أنملة لأي سبب من الأسباب.. لا شيء يوقفه عن الوصول إلي الهدف، ارتباطات أسرية، علاقة عاطفية، شيخ عجوز يطلب مساعدته، أو امرأة جميلة تبغي غوايته، صديق قديم أو جديد ينشد مؤانسته.. لا شيء، ولا مخلوق يستطيع أن يوقف الخطة الموضوعة والأهداف المحددة سلفا بدقة!

علي نفس الرصيف، جلس رجل في أواخر الثلاثينيات مع سيدة مبعثرة الشعر، تبدو من هيئتها وطريقة معاملته لها أنها زوجته، يلعب طفلاهما علي بعد خطوات معدودات بطريقة رتيبة روتينية.

عينان زائغتان فقدا بريقهما منذ أمد طويل، لا تقوي علي تثبيت شعاع النظر علي شيء محدد لأكثر من جزء من الثانية، فيما عدا نظرة مختلسة لامرأة عابرة حسناء أو نصف أو ربع حسناء أو حتي دميمة.. عينان يخنقهما الملل واليأس، ويقتلهما قتل الحلم والرؤية والهدف وفقدان الرغبة في الاستمرار.

يفيق من حلمه، بأن يعاود الحلم مرة أخري علي رنين صرخة أطلقتها زوجته، سعت بها أن تقمع محاولة أحد الأبناء للقيام بحركة تمرد يكسر بها دائرة اللعب الروتينية.

رغم ضوء الشموع الخافتة والحواجز الزجاجية، بدت ملامح الرجل الجالس علي طاولة أنيقة في المطعم المتاخم للحديقة بالغة الوضوح، وجه يتسم بالثقة والصرامة والقدرة علي الاحتواء لرجل في نهاية الأربعينيات، يهيئ لنفسه أنه قد وجد الحل السعيد، ويتصور ـ ضمن هلاوسه ـ أنه بالغ الاتساق مع النفس رغم ازدواجيته الفجة، يبث في هدوء يشبه هدوء الدعاة، حديثا معسولا صقلته السنوات عن ماضيه وحاضره ومستقبله، وكأنه- مستقبله -لايزال له نفس المغزى، الذي كان يظنه، حين كان شابا يافعا، يرنو بثقة إلى الآفق البعيد.

على المقعد المقابل، توارت فتاة تجاوزت بالكاد عامها العشرين، تنظر إلى أصناف الطعام الفاخر المبعثرة أمامها، بإنبهار غير متصنع، تماما كما ترمق بنفس درجة الاعجاب والانبهار، خصائل الشعر الأبيض، تلحتف قمة رأسه الكبير، والدخان الكثيف المنبعث من فوهة سيجاره الغليظ.

أطلق صرخة من الأعماق على آثر لسعة من بقايا السيجار، الذي كان لايزال يحترق في يده، أنطفأ السيجار، فانقشع الدخان، وتجلت الرؤية واضحة لالبس فيها…كانت عتمة الشيش الموصد،خلف زجاج نافذته المغلقة، قد جعلت منه مرآة، عكست ضوء المصباح القابع على سطح مكتبه، وهيآت له انها أضواء متوهجة، قادمة من الخارج وليس من الداخل.

اكتشف في لحظة نادرة حقيقته…إلا أن ذلك لم يعد يفيد.

لم تعد لديه الرغبة أو القدرة على التغيير…

تذكر موعد فتاته الصغيرة في المطعم الأنيق, ارتدى معطفه في غير اكتراث، وذهب بعد أن آمر سكرتيرته، بالغاء ما تبقى لديه,فيما عداه، من مواعيد.