حياة الماعز: فن أم فخ؟

محمد بكري

8:25 ص, الأحد, 8 سبتمبر 24

محمد بكري

محمد بكري

8:25 ص, الأحد, 8 سبتمبر 24

هل هناك علاقة بين فيلم “حياة الماعز” إنتاج مارس 2024 (بعيدًا عن ابتزازه العاطفى عند معرفة حقيقته)، وبين جوبلز وزير دعاية النازية، وكوكاكولا الأمريكية، واستراتيجية رجل أوروبا المريض، وبين استغلال الفن والإعلام للعمالة الوافدة كأداة – بتشتيتها – تبطئ نهضة الخليج العربي، خاصة السعودية، تحسبًا من البعض لمخاوف جيوسياسية، وهيمنة دولية تُحجّم المنافسة، وتُخل بقواعد اللعبة؟

بطبعى لا أحب التلاعب بالعقول وأقدار البلاد والعباد، ومع الحراك العالمى لتداعيات الفيلم المذكور، فضلت قبل مشاهدته بحث خلفياته، نقده، قدحه، ومدحه، لأضع إطارًا موضوعيًا كمتلق يُقيّم العمل فنيًا ورسالة.

لن أسرد هنا قصة الفيلم المغلوطة فهى متاحة للمشاهدة! ولكنى سأسترجع حقائق تأكدت منها داخل السعودية ذاتها وعلى الإنترنت! فصاحب القصة الهندى لم يكن مسلمًا! وقتل خاطفه (وليس كفيله الرسمي)! وقُبض عليه وأُلزم بـ170 ألف ريال دية! ليعفو عنه ورثة القتيل – بفتوى شرعية – عند علمهم بسلوك ومديونية موروثهم بحقه! فمنحوه مبلغ الدية أجرًا وتعويضًا كأخلاق الإسلام وليسلم الهندي متأثرا بها ويعود للهند! هذه هي الحقيقة !

أما الدراما الفيلمية المبتزة لأبصارنا! فنجدها أُسست على الهندى المقهور الذى جعلته مسلمًا، لتعميق الشعور بالتضامن بين المسلمين حول العالم ضد الظلم! ثم السعودى الخاطف (المنادى بهتانًا بالكفيل)، لتأكيد صورة نمطية سلبية للمجتمع السعودى وتحديدًا نظام الكفالة (الذى لم يظهر مطلقا فى الفيلم! إلا لو اعتبرنا حقيقة النظام بصورة السعودى الشهم، منقذ البطل بسيارته الرولز، كرمز للتحديث والاستيعاب الجديد)! ثم الأفريقى المنقذ المتفاني، كرمز للتضحية التى تقدمها المجتمعات الأفريقية دون اعتراف كافٍ بفضلهم، ثم توظيف صوت زجاجة كوكاكولا فارغة على الأسفلت (بدون شعارها المشهور، اعتمادًا على معرفتها كونيًا بتصميمها المميز منذ 1915)، كأداة أنقذ سماعها البطل بنهاية الفيلم! ورمزًا ثقافيًا للتأثير العالمى للقيم والصناعة الأمريكية، المتواصلة بحياة الناس حتى بأكثر الظروف قسوة! لنزدرد الفيلم كرؤية نقدية تبتز المجتمع السعودى برمته (والخليجى بطريقة غير مباشرة)، وفى الوقت نفسه تسلط الضوء على التفاعل بين الثقافات المختلفة! ليظهر السعودى مطلقًا كظالم، والهندى كمظلوم يسعى للخلاص، والأفريقى كضحية غير مُقدرة، والأمريكى كمُنقذ غير معلن!

تركيبة غير بريئة – لإنتاج وإخراج هندى أمريكى مشترك – أحدثت الأثر المستهدف عالميًا، بخلخلة العمالة الوافدة كمصدر أساسى فاعل فى نهضة الخليج، وزرع الشكوك والانقسامات العرقية والإثنية، وزعزعة استقرار دول الخليج من الداخل، لتوجيه انتباه الشعوب لهذه القضايا بدلًا من التركيز على الإنجازات والتنمية! مع رمزية أن الحلول دومًا تأتى فى النهاية من أمريكا والغرب! للتذكير بأن النهضة الخليجية رغم كل شيء، لا تزال مرتبطة بالدعم أو النفوذ الغربي!

وهذا يقودنا لفهم توظيف الفيلم ونتفليكس، لرؤية جوبلز للفن والأفلام والإعلام، كأدوات للدعاية والحرب النفسية خلال الحرب العالمية الثانية، وأسلحة قوية ليست فقط لتعبئة الشعب الألماني، ولكن أيضًا لضرب معنويات الأعداء وتشويه سمعة الحلفاء!

ومع عدم وجود أعداء معلنين، وزخم الاستثمارات العالمية فى الخليج، فالسؤال من المستفيد بضرب نهضة الخليج العربى وتحديدا السعودية؟ وبعيدًا عن اتهام الدول، فهناك احتمالات لتورط كيانات وتحالفات اقتصادية وسياسية وإعلامية عالمية، منظمات فكرية دولية، شركات إنتاج سينمائى ومنصات رقمية، تُسخر الفن كأداة لتقويض نهضة الخليج رغم الفوائد الاقتصادية المحققة منه! مدفوعين بمخاوف جيوسياسية، وظهور وتمكن لاعبين عالميين جُدد – بالنفوذ المتزايد للسعودية والإمارات – بما قد يخل بحسابات المنافسة والتحالفات والتأثير الدولي! لتكون استراتيجيتهم تحقيق التوازن بين استمرار استفادتهم ومكاسبهم الاقتصادية الحالية، وبين الحفاظ على السيطرة والتأثير على المدى الطويل، من خلال محاولة إبطاء نهضة الخليج! من هنا كان تقييمى للفيلم كأداة تستخدمها بعض القوى الدولية، لتوجيه رسائل سياسية واجتماعية، تبطئ نهضة الخليج بالتلاعب بالرأى العام العالمى (كاستحضار تدريجى لإستراتيجيات السيرك الرومانى لإلهاء العامة، تركيا رجل أوروبا المريض، ودرس نهضة محمد على بمصر)!

تكشف مشاهدتنا للفيلم – باعتبار هذه التحليلات – حرص صناعه ومن خلفهم، على تقديم صورة ذهنية لمجتمع شرق أوسطى جديد يُحاذر من نموه ونهضته! فيستخدمون البشر كأدق مكوّن له، عنصرًا مشتعلًا يمكنهم توجيهه بفن مُسيّس، يتلاعب بإحباط وتشتيت شعوبه، لأغراض إستراتيجية وسياسية واقتصادية تفوق توجهات دول، لن تفضح مخططاتها طويلة الأمد، وتستخدم الفن كسلاح جوبلزى أصيل لم يمت بعد!

يمكننا تدبر هذا التحليل؛ بتقييم عدد وقيمة ونوعية وتنوع العمالة الوافدة وأثرها فى نهضة الخليج عمومًا، ومشاريع السعودية العملاقة خصوصًا، كنيوم، مشروع القدية كمركز للترفيه والرياضة، مدينة الملك سلمان للطاقة (سبارك)، مشروع تطوير جدة التاريخية، مطار الملك عبد العزيز الدولى الجديد، مشروع البحر الأحمر للتنمية، مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، وكل ما تخطط له المملكة لتحقيق أهداف رؤية 2030، المستهدفة تجاوزًا تدريجيًا لاعتماد اقتصادها على صادرات النفط، لتنمية اقتصاد يؤسس على الابتكار، التكنولوجيا، الطاقة النظيفة، السياحة الفاخرة، صناعة المعلومات، الخدمات المالية واللوجيستية (للعمالة الوافدة دور خطير فى ذلك، وضربها سيعطل هذا التحول)، والذى قد يهدد مصالح اقتصادية لشركات ومؤسسات دولية معينة، تعتمد على هيكلية الاقتصاد التقليدى للسعودية والخليج، ومصلحتها الخفية فى حفظ القائم لصد القادم!

ولاستيعاب أثر توقيت الفيلم مارس 2024، سنجده انفجر (بدراماته المدروسة) بعد 8 سنوات من تنفيذ الرؤية الذهبية! وسنتين من تعديل السعودية لنظام الكفالة كاملًا! و19 سنة من نظام مكافحة جرائم الإتجار بالبشر، و3 سنوات من تفوق الحكومة الإلكترونية السعودية! ليُقذف بالفيلم كحجر يثير قفير نحل العمالة الوافدة عصب هذه النهضة! ويحرج السمعة التجارية للمملكة بالأسواق العالمية، فيؤخر قدرتها التنافسية لتشكك الاستثمارات والعمالة الوافدة، ويفتت بروج التنمية بخلخلة قواعد بنائها!

من هنا درست الفيلم كمراقب مصرى محايد، يعيش بذات منطقة الشرق الأوسط – موطن الفرص- كما سماها البطل، وليس غريبًا عن إحباطه للعمالة المصرية بالسعودية والخليج! وهو ما أثار تساؤلى عن تجاهل صناع الفيلم لمآسى العمالة الهندية فى ماليزيا والسودان وأمريكا ذاتها! من تمييز عنصري، لاضطهادات المعاملة، لسوء الظروف المعيشية وهتك الأجور؟ أيضًا تأطير الفيلم لصورة الخاطف السعودى (وليس الكفيل الرسمي)، والذى ثأر منه البطل الحقيقى بقتله، وترك الفيلم لإرث كامل من الظلم والقهر والاحتقار الإنجليزى للهنود فى مجزرة أمريتسار 1919، ومجاعة البنغال 1943؟

فيلم حياة الماعز كمعادلة، ابتزاز عاطفى مفضوح بعد معرفة الحقيقة والأبعاد، وفخًا فنيًا متوسط الإبداع عدا الموسيقى، يخطط لاستراتيجية عالم جديد بوساوس العلاقات الإثنية! فيُربك النمو الخليجى ببعثرة عجلاته لإبطاء مسيرته! استثمارًا لواقع ستنقذه أمريكا والغرب، كقوة قادرة على إنقاذ حتى أولئك الذين يواجهون القهر فى أماكن بعيدة! ولن يكون تفنيد أو دحض هذه الاستراتيجية بحظر الفيلم أو عصره فنيًا! ولكن برؤية واعية لاستراتيجية مضادة (لا تقلّ عمقًا عن رؤية حقيقة المخطط)، بمشروع ثقافى عربى حقيقي، يتجاوز أُطر المعازف والمهرجانات، ويستثمرها الوعى المقابل بالإمكانيات غير المحدودة، لإنقاذ نهضة حقيقية بدأت وستستعر حربها!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]