تتميز السياسة مثل غيرها من العلوم الإنسانية، بفلسفتها الخاصة، إذ لم تُراع مقتضياتها العملية عند ممارساتها الميدانية، لافتقد العاملون بها من الساسة حدس مباشرتها- كضرورة للسلوك الناجح فى دروبها المتشابكة مع الثقافات والعلوم الأخرى، بوصفها «أم العلوم» لو جاز التعبير، ولتحولت من ثم الزعامات السياسية الواعدة إلى مجرد شخوص سلطوية، شتان بينهما، حيث يرتدّان بالسلب على كلٍّ من السلطة والسياسة فى آن واحد، على النحو المشهود فى العلاقات الدولية والإقليمية والمحلية خلال الحقبة الأخيرة من أزمة الحكم الديمقراطي والقيادة السياسية فى العالم، تستوى فى ذلك داخل كتلة دول العالم الثالث أو تلك التى قطعت أشواطاً متميزة فى تقدم مجتمعاتها، سواء عمن أفرزت قياداتها السياسية من خلال العمل السرى قبل الانقلابات العسكرية.. وعبر منظمات إرهابية، ظلت على ممارستها النهج السرى حتى بعد وصولها إلى سدة الحكم، أو سواء عمن أفرزت قياداتها السياسية من خلال الممارسة الديمقراطية، طبقة أوليجاركية غربية أو بيروقراطية شعبية شرقية، ربما فى إطار ما يطلق عليها نظرية «الأنانية العقلية» لإدراك مكاسب شخصية طبقية أو تلك التى تتفق مع الصالح العام للطبقات العاملة، الأمر الذى يمثل صراعًا قيميًّا بين فلسفتين متعارضتين من العمل الديمقراطى السياسى حول العلاقة ما بين «المثالية» و«المادية»، لا يبلغها قصور تصورات قيادات العمل السياسي في هذا الزمان ، ما بين الفلسفة الأرستقراطية الغربية.. والفلسفة الانعزالية الشرقية، ومن هم على نهجيهما بالمعنى المجازي لكل من عنصرية النيو- ليبرالية القومية من ناحية.. وعدالة الليبرالية الاجتماعية على الجانب الآخر، اللذين انتهى نموذجاهما إلى مصيرين مختلفين زاد النظام الدولي ارتباكًا وفشلًا.
على صعيد مواز للأنانية السياسية العقلية، تتراجع أخلاق الساسة جنبًا إلى جنب مع غياب فلسفتهم السياسية على مذبح المصالح الوظيفية السلطوية، حتى لم يعد مكان فى داخل أروقة الحكم للسياسى الموهوب Talanted الذى يمكنه التنبؤ بتطور سياسى محتمل من مجرد قراءات لما بين السطور عن خبر صغير فى إحدى الصحف، إذ شتان بينه وبين سياسى آخر مخدوع بعلّة عدم استنباط المقروء من التطورات الجارية، الأمر الذى يفرق بين كفة رجل الدولة والموظف السلطوى وبين من يعدك- كما يقال- ببناء جسر على نهر غير موجود أصلًا، ذلك على عكس من يتمتع بشجاعة المصارحة التى هى حلية فرسان السياسة ودهاتها، ممن يجيدون اختيار التوقيت الأنسب لصناعة القرار وإعلانه، من دون افتقاد- كما الشائع- الأخلاقية السياسية الاحترافية، التي بدونها يتحول السياسي من رجل دولة إلى موظف دولة على أفضل تقدير.
إلى ذلك، وإزاء ما يشهده العالم فى الحقبة الحالية، سواء عن مواقف دولية وإقليمية قابلة للانفجار بفعل قصور كفاءة السياسيين أو من خلال كوارث بيئية تهدد الجنس البشرى بأَسْره، فإنه يمكن عندئذ الربط المطرد بين انحسار الفلسفة السياسية لرجالات الدولة.. وتفاقم السلوكيات الغرائبية اللا مبالية بحقوق الإنسان من جانب رجالات السلطة، بين «كينيدي» و«ترامب» على سبيل المثال، إلى ثنائيات أخرى متضاربة كما فى روسيا- نموذجًا- بين «جورباتشوف» و«بوتين»، بين «ديجول» و«ساركوزي»، بين «أتاتورك» و«أردوغان»، وإلى غير ذلك فى العديد من دول الشرق الأوسط، وعلى امتداد أقاليم العالم التى تعانى من أزمات القيادة والحكم، إذ يتردد فى جنباتها صدى النداء على السياسيين للتصرف كرجال دولة.