الشرق الفنان
(12)
فى التمييز بين مصور الشرق ومصور الغرب، يرى الدكتور زكى نجيب محمود أن مصور الشرق يدنو من الطبيعة متخففا وذهنه خال من الافتراضات السابقة عن حقائق الأشياء. لا يفترض ما يفترضه المصور الغربى أنه متفرج على الطبيعة، يشهدها كما يتابع النظارة ما يدور على المسرح، كما لا يفترض على خلاف زميله الغربى أن للأشياء التى يقصد تصويرها خصائص معينة درسها أو عليه أن يدرسها، ويضرب لنا الدكتور زكى مثلاً لتقريب ما يريد أن يقول. لو تمثلنا مصورين شرقى وغربى يصوران الطبيعة ملتحفه بالضباب سنجد أن المصور الغربى يرسم مشهده وهو على وعى بأن الضباب غلالة عارضة جاءت فكست الشجر والنهر والجبل، ذلك لأنه دخل ساحة الطبيعة وهو مزود بعلم سابق عن مقومات المنظر الثابتة الدائمة وزوائده التى جاءت عارضة فحالت بينه وبين «حقائق الطبيعة» كما قد عرفها من قبل.
أما الفنان الشرقى فيدخل إلى مشهد الطبيعة متخففًا غير مشغول أو مقيدًا بعلم سابق، ليتقبل الطبيعة بكرًا. لا يفرق بين جبل ثابت وضباب عارض، فكلها عندئذ طبيعة واحدة موحدة، لا مبرر لتجزئتها أو تقطيعها، وإنما كل العناصر خيوط من نسيج واحد، يدرك وحدانيته لا بعقل يحلل، إنما بالمجابهة الروحية مباشرة. يدركها باللقطة الوجدانية الواحدة ! وتلك هى الصوفية الشرقية بأدق معانيها وأوصافها.
دعنى أنقل إليك ما أراده الدكتور زكى نجيب محمود بعبارته. يقول إن الفن الشرقى فيه بساطة قد تخطئها عين الغربى فلا يرى أسرارها «ومكمن السر هو فى اتحاد الفنان بالطبيعة التى يصورها اتحادًا لا يتذوقه إلاَّ من طعم الثقافة الشرقية وتنفس هواءها ؛ فلقد قيل عن فنان شرقى صور قصبات الخيزران على لوحته، إنه قد نسى نفسه حتى تحول إلى خيزرانة، بحيث لم يعد يري فى نفسه الاَّ قصبات من خيزران؛ وهكذا يخيل إليك إذا نفذت بعين الناقد الخبير خلال الفن الشرقى إلى سره الدفين يخيل إليك أن الفنان إذا ما صور حصانًا أو طائرًا أو فراشة أو نهرًا، قد تحول هو نفسه إلى هذه الأشياء التى يرسمها ؛ فهو لا يرسمها من ظواهرها كما تبدو لعين الإنسان المنتفع بها، بل يتحد معها بروحه ليرسمها من الباطن، فينفذ إلى صميم ما يتصدى لتصويره».
من إمتزاج الفنان الشرقى بالمشهد يصير جزءًا منه، وإن شئت قلت إنه يصير جزءًا من الكل الشامل ؛ وما الكل الشامل عنده عند الفنان الحقيقى لا أعياد الفن الواحد الأحد الذى تتعدد آياته فى هذا الكون العريض، إنه يرى الجوهر، وهذا الجوهر هو ما ينشده العابد، معايراه الفنان !
بفضل النظرة الصوفية الفنية التى ينظر بها الشرقى إلى الأشياء، يستطيع أن يدرك الوحدة التى تشتمل الكون كله على اختلاف ظواهره وتعدد كائناته.
وإذا أراد القارئ أن يفهم المقصور بتوحيد الكثرة فى كون واحد، فلينظر فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود إلى ذات نفسه من باطن. فى الظاهر سوف يدرك سلسلة من الخواطر التى تمر عابرة أمامة، هذا التعدد الظاهر الذى يراه.
وهذه الوحدانية الضاربة فى صميم الحقيقة الكونية، رغم ما يبدو للحواس الظاهرة وللعقيل التحليلى من تباين واختلاف، ومن تجزئة أو وتعدد، هى فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود سر الشرق وروحه، بها نادت دياناته المنزلة وغير المنزلة على السواء، أفيكون غريبًا بعد ذلك أن تجىء ثقافة الشرق الأصلية داعية إلى الإخاء بين الإنسان والإنسان جينًا، وإلى الإخاء بين الإنسان والحيوان حينًا آخر، بل إلى الإخاء بين الكائنات الحية والجوامد حينًا ثالثًا:
خفف الوطء ما أظن أديم إلاَّ
رض إلاَّ من هذه الأجساد
www. ragai2009.com