الوعى والفهم والحياة
فى أحد فصول كتابى : «دولة الأيام» (كتاب الهلال يونيو 2009)، تكلمت عن البشر والكون والإيمان، وقادنى الحديث فى خلق الإنسان وصلته بربه، إلى ما ينمو لدينا من الفهم والمعرفة مدى أعمارنا المقسومة لنا.. وإلى التأمل فيما صار إليه هذا الفهم وتلك المعرفة. فما عندنا نحن الآدميين من المعرفة مما يمكن أن نسنده لأنفسنا هو حصاد الارتقاء من مرحلة الوعى الساذجة إلى مرحلة أو مراحل الفهم.. وهذه لا آخر لها ولا نهاية.. لأن حياة الآدمى منذ زمن تخالطها تطورات فهمه لحياته ومحيطه والكون، وهى فى طريقها إلى الامتزاج والملازمة لهذا التطور الذى لايمكن أن ينتهى.
وهو فهم مهما تعاظم وتعمق لا يُعقل أن يستوعب وعى ما يسميه الآدميون بالمطلق والأزلى والأبدى وغير المحدود فى أى اتجاه، لأنه خلف كل اتجاه وداخل أى اتجاه دون أن يتجدد!
ولا جدوى فى هذا الصدد للإحالة على كلمات من مثل : خلق وصنع وأنشأ وابتدع، ولا إلى نتائجها من آلات وأدوات ومعدات ووسائل وطرق ومنتجات.. من محاصيل وزراعات وأزهار وأشجار، أو من أفكار وآراء وأحكام ومذاهب وعقائد فاقدة الوعى بهذا الوجود، وعديمة الفهم.. لأنها لا وعى لـها ولا إحساس بالذات! ومصدقات ومعارف وعلوم وفنـون وآداب!.. فهذه كلها نواتج بشرية فى ذاتها، جمادات أو فى حكم الجمادات.
فنحن مهما تطاولنا، مخلوقات أنعم عليها الخالق جل شأنه بالوعى والفهم دائمى النمو والتطور بلا نهاية، ما دام النوع الإنسانى مصرًا على احترام وعيه وفهمه والانتفاع بهما. نحن مخلوقات وسط قد يكون لنا أمثال فى هذه الوسطية فى الكون العظيم، يمكننا بهذا أن نعى ونفهم على مقدار قابل للزيادة الهائلة وللنقـص والتقلص الهائلين، يمكننا أن نعى ونفهم وجود الخالق عز وجل ووجود الكون العظيم الذى خلقه سبحانه وتعالى ونحن ضمنه.
ولكننا يستحيل علينا أن نعى أو نفهم الخالق جل شأنه.. حتى كما نعى ونفهم أنفسنا أو غيرنا من الآدميين أو غيرنا من الأحياء.. أو حتى كما نعى ونفهم الكون العظيم وما فيه. وهذه الاستحالة بديهية لدى المتأمل، لكنها تبدو غريبة لدى الإنسان العادى.. برغم أنها لازمة من لوازم الخلق طبقا للناضج من عقـول الآدميين. إذ لا يعقل خلافها ويستحيل أن يكون الآدميون المخلوقون خالقين أبديين إلى جوار خالقهم تبارك وتعالى.
وإشارات القرآن المجيد إلى آدم تشير فى عمقها إلى هذا المقصود.. وقوله سبحانه وتعالى : «وعلم آدم الأسماء كلها ثـم عرضهم على الملائكة» إشارة إلى آدم التام الذى زوده المولى عز وجل بالوعى والمعرفة والفهم، والذى زود من روح خالقه سبحانه ما استحق به أن تسجد له الملائكة، وما استحق به أن يعيش هو وزوجه فى رضا ورغدٍ تامين.
لكن آدم منح مع تمام المعرفة والفهم، منح حرية المشيئة والاختيار لما يستطيب، فهيأت له نفسه أو خيلت إليه فى لحظةٍ نسى فيها خالقه أن يطلب لنفسه أن يكون خالدًا ذا ملك لا يبلى، فسقط بذلك الطلب وزن كل ما كان لديه من تمام الوعى والمعرفة والفهم، فأخرج من حيث كان، لتضيق عليه الأرض بما رحبت، وليمضى حياته فى هداية نفسه وأهله ومن حوله فى محيطه ونسله حتى لا يقع منهم مثل ما وقع فيه حين أعطى ظهره للوعى والفهم فخسر ما كان فيه من الإكرام والإنعام!
كان نجاح آدم فى أولاده محدودًا، وقد نبه القرآن المجيد إلـى أن الله تعالى اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (آل عمران 33).. وذلك كأنبياء هادين مهتدين أولهم آدم بعد تلك المحنة التى مَرّ بها.
ووجود الأنبياء كل فى زمنه ومحيطه كهادين واعين عارفين فاهمين، قد استلزمه وجود الكثرة الكافرة من البشر، الجاهلة الغافلة اللاهية المنصرفة فى بدائيتها وتأخرها فى عاداتها وأخلاقها ومفاهيمها وغاياتها وأغراضها.
ومع تطور المجتمعات فى القرنين الأخيرين، والتفاتها واحتياجها اقتصاديا وسياسيا إلى نشر التعليم فى جـميع الطبقات، ومع ما واكب ذلك من اتساع نطاق الإعلام والثقافة بين الجماهير، كثر دعاة الهداية والتبشير، وكثرت مراكزهم ووسائلهم وأساليبهم، وقلت استجابة الجمهور إلى الدعـاة الجدد، ولم يعد ظهور بعض الزاعمين يجتذب الأنظار والأسماع والأنصار إلاّ بقدر محدود جدًا.. خاصة وقد اتسعت وتعددت ألوان الدعوات لاجتذاب الجماهير دينية ولا دينية، وسياسية وغير سياسية، ووطنية وثورية، ومحافظة وراديكالية، وصوفية ويوجية وكريشنامورية وثيوصوفية.. وظلت عامة الناس فى البلاد المتطورة وغير المتطورة، منتمية برغم ذلك إلى أنبيائها ودياناتها انتماءً خالياً فى الأغلب الأعم من الحماس والعمق!
هذا وأكثر أفكار الآدمى خواطر داخلية بلا واقع فعلى يحركها ويثيرها.. وهى فيما يبدو تستعجله إلى الحركة والتحرك.. وهو إذا اعتاد عليها دون أن يتحرك، فقد أو كاد معظم ميله الغريزى إلى الحركة والفعل، وأدمن ذلك النوع من التفكير العقيم، وصار أسير الخيالات والخواطر الفارغة لا يتركها ولا تتركه!
ويبدو أن هذا الفقدان للميل إلى الحركة والفعل.. هذا الفقدان المتواتر السائد، يرجع إليه معظم ما لدينا من مخالفة أفعالنا لأقوالنا، وكثرة وسهولة وعودنا وعزومنا وعهودنا وقلة ما ننفذه ونلتزم به منها، وتقلص التمسك بالإخلاص والأمانة والوفاء، وتعذر الصبر الطويل على احترام كلمتنا والتزام حدود عقيدتنا فى الإصرار على الامتثال الفعلى لمبادئنا المعلنة، وهو المقصود الحقيقى من الاستقامة.
كما يبدو أن هذا الفقدان سبب من الأسباب الرئيسية لما نتصف به مما بلغناه من أنواع وصور القسوة وعدم المبالاة، وقلة الشفقة والرحمة حتى لمن يستحقونها من أهلنا أو جيراننا ومعارفنا.. ثم يرجع أيضًا لهذا الفقدان بعض أسباب ولع الآدمى بترديد العموميات أو التجريد والحكم والقواعد، لأنها خالية بالنسبة له من الإلزام فى التطبيق الفعلى.. وهذا يغرى الآدمى بحفظ أمثال تلك المقولات العامة، وقد يدفعه إلى تقصيها وينتهى به إلى التعالم وسعة المعرفة والتبحر فى العلم.. وإلى اعتباره عند نفسه وفى بيئته متعلمًا أو عالمًا أو عـارفًا، دون أن يتحقق لديه وفى أعماقه رسوخ الأمانة والإخلاص والتراحم. ومن هنا كانت تنفصل الأخلاق والتدين عن المعارف والعلوم، بانفصال القصد الفعلى فى كل ما لدى البشر، وذلك قبل أن تتداخل هذه فى تلك، نتيجة الاحتراف والارتزاق!
www. ragai2009.com