الإمام الطيب والقول الطيب
(35)
يتضح ما أسلفناه بجلاء فى ركائز لتلك النظرية لا يفوت مغزاها!!!
أولهـا: فى ارتباط التراث الإسلامى القديم بواقعه الذى نشأ فيه ارتباطًا عضويًّا!!
وثانيها: فى أن الواقع هو مصدر هذا التراث، فالتراث على ذلك تابع لا متبوع!!
وثالثها: فى أن التراث جزء من الواقع، وعلى ذلك فالقرآن والسنة وفقًا لهذا المنظور المعكوس جزء من الواقع، وليسا مصدرًا قدسيًّا مقدسًا لتغيير الواقع الذى كان!!
ورابعها: أن التراث بتعميم خطير!!! ليس حقيقة موضوعية دائمة، وإنما تعبير عن موقف تاريخى محدد، وعن تصور معين لجماعة خاصة.
وهنا يقرع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب يقرع الأجراس للتنبيه إلى النتائج الخطيرة جدًّا المستهدفة من تقرير «أصالة الواقع وتبعية التراث»، فالدين إذن وبكل مصادره!! تابع لا متبوع، ومن ثم يصير من المسموح بل اللازم فى مراد النظرية أن يكون للمجتمع الجديد «تراث جديد» يعبر عن الواقع الجديد الذى يعيشه المجتمع، أما التراث القديم بتعميم شامل مقصود والمرتبط مرحليًّا!!! بواقع مضى وذهب وتولَّى، فقد مضى زمانه وتخطاه التاريخ المعاصر وخلَّفه وراءه!!
ثم تفصح هذه النظرية، بل وتؤكد فى عدة مواضع، أن هذا التراث القديم ( المرفوض! ) لا يزال يشكل بكل أبعاده النسيج الداخلى لأفكارنا وتصوراتنا ومشاعرنا.
ولست أميل إلى طرح احتمالات لمقصود هذا الاتجاه، فهو دعوة واضحة وصريحة إلى انتزاع مكانة الدين من العقائد والأفكار والتصورات والمشاعر، وإحلال بديل يضاد التراث الإسلامى بكل مصادره وأصوله ومشتملاته.
تساند متهافت مغلوط
ولا يجدى صاحب هذه النظرة، تسانده إلى علم «أسباب النزول» وعلم «الناسخ والمنسوخ»، لاعتساف القول بأن التراث فى سبب النزول أو فى النسخ كان تابعًا للواقع ملبيًا له، ولم يكن مؤثرًا فيه!!!
وعلى مقتضى هذه النظرةٍ فى فهم صاحبها فإن الوحى نزل حسب متطلبات الواقع، أى طبقًا لأسباب النزول، وليصل من ذلك إلى الهدف المقصود، أن الوحى ليس كتابًا أُنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل وإرادة إلهية ليتقبلها ويلتزمها جميع البشر، بل هو وقد نزلت آياته منجمة إبان ثلاثة وعشرين عامًا مجرد مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية، بل وإن كثيرًا من هذه الحلول كانت مجرد استجابة لمقترحات من الفرد أو الجماعة ثم أيدها الوحى أو استجاب لها. وهذا فى نظر صاحب هذه الاتجاه هو معنى «أسباب النزول»!!!
ويفوت صاحب هذه النظرة، فى هذه القفزة ( الخطيرة )، أنه لم يكن لكل آية من آيات القرآن سبب نزول، وأن القرآن الكريم نزل على قسمين: قسم نزل ابتداءً، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال، وأن نزول الذكر بمناسبة أو عقب واقعة أو سؤال لا يعنى أنه استجابة أو تلبية، وإنما أراد به الشارع الإلهى فرض الحكم الذى يلتقى فى الغاية مع القسم الأول الذى نزل ابتداءً من القرآن.
أما القول بأن القرآن الكريم نزل «طبقًا لأسباب النزول، وتبعًا لإمكانيات تقبله»، فإنها قالة مغرقة فى الخطأ، لم يعرفها تراث الإسلام، بل ويأباها هذا التراث فيما يبدى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب وينكرها أشد الإنكار؛ ولذلك لم يستطع القائل بهذا اللغط أن يدعمه بشىء ذي بال من أقوال العلماء، بل دارت كتاباته فى إطار الأمانى التى عز عليه تحقيقها، لأنها فى واقعها نقيض الأصل الذى جاء يحدثنا عنه!!!
وغنى عن البيان الذى ما كان يفوت صاحب هذا اللغط، أن هناك خلطًا نَبَّهَ إليه الجلال السيوطى فى كتاب «أسباب النزول»، بين تفسير الآية وسبب نزولها، فاعتقد البعض على غير فهم صحيح أن تفسير الآية سببٌ أو مناسبةٌ لنزولها، ومن هذه الأمثلة التى تمثل بها الجلال السيوطى أن قصة قدوم أبرهة الحبشة واستهداف الكعبة، لم تكن سببًا لنزول سورة الفيل، وإنما أخبرت السورة بحوادث وقعت قبل النزول بل وقبل البعث بسنين عديدة، ومن ثم فهى ليست من أسباب النزول، بل من باب الإخبار عن وقائع ماضية، وعلى مثل ذلك جاء ذكر قصص الأنبياء مع الغابرين من أقوامهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وكقصة يوسف عليه السلام مع إخوته ثم مَقدمهم وأبيهم يعقوب إلى مصر.
وعلى ذلك فليس صحيحًا ما يقال إن أسباب النزول استوعبت الكتاب الكريم، وتحكمت فى نزوله، ناهيك بالقفز إلى أنها نزلت لمتطلبات الواقع واستجابة له، وإنما الصحيح أن قدرًا كبيرًا جدًّا من القرآن الكريم نزل ابتداءً بلا أسباب أو مناسبات أو مقتضيات من الواقع، ولا كان إجابةً على أسئلة.
ويذكر الإمام الأكبر الدكتور الطيب أنه إذا كان نزول بعض الآيات قد تزامن مع مناسبات أو حوادث جزئية، فإن آيات التوحيد لم ترتبط أو تقترن بشىء من ذلك، وأن التزامن مع الحوادث يقتضى فى أصول البحث العلمى واستقامة المقاصد التمييز بين التفسير، وبين المناسبة أو السبب، فضلاً عن تعدد المناسبات والأسباب التى يقال إنها تزامنت مع نزول آية أو آيات، مما يضعنا أمام حكمٍ نزل لا مجرد استجابة لمناسبة أو سبب.
وأعتقد كما أفصح الدكتور الطيب، أنه لم يكن ليفوت صاحب هذه النظرة، القاعدة الأصولية التى تقرر أن «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وأن هذه القاعدة الأصولية تنسف من الجذور محاولة ربط القرآن بالواقع ربط معلول بعلة.
www. ragai2009.com