الإمام الطيب والقول الطيب
(37)
خلاصة
يعتذر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب للقارئ إذا كان قد أطال عليه فى شىء يعرفه، ولكنه أراد أن ننتهى إلى أن «أسباب النزول» فى تراثنا القديم لا تعنى كما يقول صاحب «التراث والتجديد» ربط الوحى الإلهى بالواقع، كما لا تعنى تعديل الواقع حسب الوحى، ولا يفهم من أسباب النزول أن الوحى ليس مجموعة من الحقائق الثابتة الدائمة، أو أنه تفسير لظرف معين أو موقف تاريخى محدد وعند جماعة خاصة، بل إن الذى يُفهم من أسباب النزول بعد تمحيصها الواجب وتصحيح رواياتها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن الغريب اللافت أن صاحب «التراث والتجديد» الذى جعل الوحى تابعًا للواقع الذى نزل فيه، وبذل جهدًا شاقًّا من أجل تمرير ذلك وترويجه، يتنكر لذلك فى مواضع عديدة أخرى فى مشروعه، بما يؤدى إلى الحيرة والدوار لمعرفة ما يريده ويتبناه، بتناقضات تنفى ما تثبته، وتثبت ما نفته، ثم يعود فيهدم ما أثبته، ليتبنى ما نقضه فى موضع آخر، فيما أسماه بعض المعلقين على المشروع «رقصة المتناقضات!!»، وعلى ما سوف يتجلى أكثر فى باقى فقرات هذا المبحث، مما لا بد لكل باحث من الإلمام به حتى يشق طريقه الصحيح فى التعامل مع تجديد التراث.
والتراث القديم وفقًا لما حدده مؤلف «التراث والتجديد»، هو فيما يقول روح الأمة ومصدر قوتها ومحرك جماهيرها بما يمدها من تصورات وقيم، وأنه من ثم جزء من الواقع لا تزال أصابعه «الخفيَّة» فيما يقول تحرك الناس على مسرح الواقع المعاصر.
وليس لنا أن نتوقع لدى تلك النظرة، فيما أبدى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب، وجود تفرقة حاسمة بين التراث كمبادئ خلاَّقة فى حياة الأمم، وبين الممارسات الخاطئة التى تحسب على الأفراد أتباع التراث لا على التراث نفسه.
وهذه التفرقة الواجبة اختفت تمامًا من اهتمامات المشروع وهو يتحدث عن التراث وتأثيراته فى الحياة المعاصرة، لتحل محلها «علاقة عضوية» مصنوعة أو مصطنعة بين التراث كمضمون وقيَم ومبادئ موجهة للسلوك، وبين حالة التخلف التى تعيشها الأمة الإسلامية الآن.
وهذا التراث فى عرف صاحب نظرية «التراث والتجديد»، هو العلة الحقيقية لكل مشكلاتنا المعاصرة وعجزنا وانحطاطنا وتخلفنا، وفيما نعانيه الآن من لا مبالاة وسلبية وتواكل هو أثر الإيمان بالقضاء والقدر فى التراث، وما استقر فى مناهج تفكيرنا المعاصر من خلط بين العقل والوجدان، فنخطب ونظن أننا نفكر، ونفتعل ونظن أننا نفعل، والسبب أن العقل فى التراث القديم الموروث، كانت مهمته «تسويغ الدين»، وأن العقل لم يستقل على الإطلاق، ولم يوجه نحو الواقع إلاَّ فى علم أصول الفقه، والذى انتهى أيضًا فى نظره إلى الثبات وتحجير الأصول وتغليبها على الواقع بحيث لم يبق إلاَّ التقليد!
وقد أسرف صاحب هذا النظر على نفسه وعلى الحقيقة، فيما رصده من مظاهر سلبية عزاها جميعًا إلى التراث القديم الموروث، حتى اعتسف مثلاً! علاقة بين الإلهيَّات والطبيعيات فى التراث، وبين ازدحام الناس فى سيارات النقل العامة، حاملاً فى شطط يفتقد إلى المقومات الصحيحة على كل تراثنا الفلسفى، وعلى علوم الفقه الإسلامى التى أورثت فى نظره عللاً عقلية، وعلى التصوف الذى يراه يقاوم الانحراف بانحراف آخر هو الرجوع إلى الوراء، مع هروب علومه وتحليلاته من عالم العقل، معتمدًا وفى منهج غير علمى على تزييف الحقائق والتناول الهازئ الساخر، لينتهى فى اعتساف غريب لا يتفق مع التحليل العلمى إلى أن هموم فقهائنا وعلمائنا لم تكنْ فقه الثورة أو فقه العدالة الاجتماعية أو التحرر من الظلم، وإنما كانت همومهم منحصرة فى أمور تافهة!!
وأنت لا بد تحتاج إلى صبر طويل لاحتمال هذه المغالطات، وإنكار آلاف الكتب والمجلدات للفقهاء والعلماء المسلمين فى الإصلاح وفى العدالة الاجتماعية وفى التشريع وفى مقاومة الظلم، وأنت لا بد تحتاج إلى صبر أطول إزاء تشخيص حياتنا بأن الإنسان محاصر فيها وفقًا لتراثنا القديم بين الإلهيَّات والطبيعيات فى الفلسفة، ومبتلع فى علم التوحيد، وفانٍ فى علوم التصوف، وممحوق فى علوم التشريع، وأننا على حد تعبيره «نعمل بالكندى، ونتنفس الفارابى فى كل لحظة، ونرى ابن سينا فى كل الطرقات»، ليخلص بعد تجاهل غريب لقائمة العلماء المسلمين المعطائين فى كل هذه المجالات إلى أن تراثنا القديم حىٌّ يُرزق، يوجه حياتنا اليومية المعاصرة!!!
www. ragai2009.com